شبح الجوع

تركّزت تقارير المنظمات الإنسانيّة العالميّة صراحة، فى الآونة الأخيرة، على الجوع الذى يعانى منه السوريّون، وخاصّة الأطفال، والتأكيد أنّ وتيرته تتفاقم وتتسارع. وهذا تطوّرٌ لافتٌ جديد مقارنة مع فترات الصراع السابقة خاصّة تلك التى شهدت معارك عنيفة تواكبت مع جنون دولة الخلافة وموجات النزوح واللجوء الكبيرة. واللافت أكثر أنّ هذا التدهور المعيشى يشمل جميع المناطق السوريّة مهما كانت قوى الأمر الواقع المهيمنة على الأرض.

فى الواقع، يتزامن انخفاض وتيرة الصراعات المسلّحة بين هذه القوى اليوم مع مشاهد الطوابير المذلّة لاستلام المساعدات الإنسانيّة أو لشراء الخبز أو البنزين المدعومين. كما يتزامن مع الأنباء عن ذهاب شباب سوريين للقتال مقابل عائد مادى فى بلدان لا تعنيهم بشكلٍ مباشر أو تلك الأخرى عن صراعات محليّة ناتجة عن نزاعات على موارد ماليّة لاقتصاد الحرب وعن أعمال خطف مقابل فدية. وتُنذِر هذه التقارير أنّ الأمور ذاهبة إلى ما هو أسوأ.

تتنوّع التفسيرات حول أسباب هذا التدهور المتسارع بنفس الطريقة التى تصطدم فيها المواقف حول أسباب الصراع وحول معنى الحلّ السياسى وسبل إعادة النهوض والإعمار. هذا فى حين يؤكّد كلّ طرفٍ اليوم على الفساد ونهب الموارد أو سوء الإدارة التى تستشرى لدى الأطراف والقوى الأخرى. لكنّ الفساد، وإن كان حقيقيّا ومستشريا، ليس ظاهرةً جديدة، لا على المستويات العليا للدولة ولا على المستوى المحلى. ولا تفسير كافيا وافيا لكيفيّة انتقال بلدٍ كان يعيش أمنا غذائيّا ودوائيّا إلى حافّة المجاعة، رغم تدفّق المساعدات الإنسانيّة.

***

فى بلدٍ شحيحٍ بالموارد المائيّة كسوريا، تتغيّر فيه نسب الأمطار الهاطلة من سنةٍ لأخرى بشكلٍ كبير، يرتبط الأمن الغذائى بالزراعة التى تتطلّب بالضرورة إدارة قادرة على المستوى الكلى كما للعمل مع المزارعين فردا فردا لضبط جميع حلقات سلسلة الإنتاج. وغياب مثل تلك الإدارة أدّى إلى انهيار منظومة الرى فى البلاد والتى كانت تؤمّن المردود الإنتاجى الأكبر وتحوّلت معظم الزراعات اليوم إلى بعليّة (أى كما يشير إليه التعبير أنّها تعتمد على ما تجود به السماء). هكذا تكفى اليوم سنة قحط شديد، كما يحدث دوريّا، حتّى ينهار الإنتاج الزراعى كليّا وتحدث كارثة كبرى.

إنّ جميع المناطق السوريّة تشهد انهيار الزراعات المرويّة. لأنّ هذا الرى لا يأتى مباشرة من الأنهار، حتّى فى الشمال الشرقى بين الفرات ودجلة، بل من ضخّ المياه من الآبار. والضخّ يحتاج إلى وقود. فى الواقع، أساءت الدولة السوريّة فى أوائل حكم الأسد الابن إدارة توزيع الوقود المدعوم بأسعاره وخاصّة أفسحت المجال لحفر الآبار دون رقابة، ما أدّى إلى كارثة وهجرة أكثر من ثلث سكّان الجزيرة السوريّة نحو المدن وما مهّد الأرضيّة لصدامات 2004 التى أخذت طابعا مناطقيا عربيا ديريا (أى من دير الزور) مقابل كردى شمالى. كلّ ذلك فى ظلّ تقنين تركيا لتوريد مياه الفرات ودجلة وغيرهما نحو سوريا والعراق.

ثمّ جاءت الإجراءات الأحاديّة الجانب (العقوبات) الأمريكيّة والأوروبيّة حول النفط ومؤسسات الدولة الماليّة فى 2011، وتبعتها هيمنة داعش على حقول النفط الرئيسة، ثمّ انتقالها إلى «مسد» والقوّات الأمريكيّة. ولقد تمّ «تصويب» نصّ العقوبات بحيث تعنى منع تصدير النفط من سوريا لحرمان السلطة من الحصول على موارد للاستمرار بالقمع. إلا أنّ الأمر جاء فى حين كان الإنتاج ينخفض أصلا وكان استيراد النفط كبيرا لعدم كفاية المصافى وحيث يميل الميزان نحو العجز. منذئذٍ أدّت العقوبات إلى إنفاق بين 2 و4 مليارات دولار سنويّا لسدّ الاحتياجات الأساسيّة من النفط ومشتقاته وإلى فرض تبعيّة لإيران وروسيا فى هذا المجال لأنّ المصارف السوريّة وكذلك المرافئ تخضع إمّا لعقوبات مباشرة أو لإجراءات احترازية من المصارف والشركات العالميّة بحيث لا يُمكن شراء النفط من الأسواق. وزادت الأمور حدّة مع دخول ما بقى من إنتاج النفط السورى فى آليّات اقتصاد الحرب والتلوّث عبر المصافى البدائيّة.

بالنتيجة، انهارت منظومة الطاقة فى سوريا ومعها منظومة الرى وأيضا منظومة إنتاج الكهرباء، حتّى فى الشمال الشرقى. ومع تشظى مناطق النفوذ انهارت منظومة الإرشاد الزراعى التى كانت تؤمّن للمزارعين البذار المحسّن ومعالجات الآفات والقروض على المحصول عبر المصرف الزراعى الذى لم يكن حقّا مصرفا بقدر ما كان هيئة لدعم الإنتاج. هذا المصرف ــ الهيئة طالته العقوبات الأمريكيّة اسميّا.

أضِف أنّ بعض نتاج منظومة الأمن الغذائى السوريّة كان يتوجّه للتصدير بغية تأمين قسم من حاجتها للعملات الأجنبيّة وللتوازن فى أسواقها. إلاّ أنّ سبل التصدير هذه أيضا انهارت مع إغلاق المنافذ الحدوديّة. فحتّى إنتاج الشمال الغربى لا يُمكن تصريفه فى تركيا. وبات الإنتاج فى الساحل والجنوب يدخل فى مقايضات التنافس مع الإنتاج فى لبنان والأردن الذى يعمل عليه أصلا اللاجئون السوريّون بأجورٍ منخفضة.

***

فى مثل هذه الظروف لن تقوى منظّمات الأمم المتحدة المساعدة ولا المنظّمات الدوليّة مهما كانت مواردها على إعادة الحدّ الأدنى من الأمن الغذائى فى سوريا، رغم انخفاض عدد السكّان عن مساره وكذلك مستوى المعيشة. كذلك لن تتمكّن أيّة منطقة من مناطق النفوذ السوريّة الثلاث من بناء منظومتها الخاصّة للأمن الغذائى مهما تحسّنت «نوعيّا» الإدارة فيها.

ونفس السبيل عرفه أيضا الأمن الصحى والدوائى. إذ إنّ منظومة الأمن الدوائى التى انطلقت فى ثمانينيات القرن الماضى فى سوريا كانت تعتمد على إنتاج الأدوية بترخيص ورقابة من الشركات الأمّ بغية بيع جزء منها بأسعار مخفّضة فى البلاد وتصدير الجزء الآخر. ووصل تطوّر هذا القطاع قبيل الصراع إلى إنتاج أكثر من 80% من حاجة البلاد وإلى توازن احتياجات القطاع من العملة الصعبة بين الصادرات وتأمين المواد الأوليّة والأدويّة التخصصيّة التى لا يمكن إنتاجها.

هذه المنظومة انهارت هى أيضا. ذلك أنّه بمعزل عن دمار وتعطيل بعض المعامل، سحبت شركات الأدوية العالميّة تراخيص التصنيع كإجراءات احترازية تخوّفا من عقوبات أمريكيّة ولتوقّف معظم المصارف الدوليّة للتعامل مع المصارف السوريّة، حتّى الخاصّة منها والتى لم توضع على اللوائح الأمريكيّة، وتوقّفت لأسباب مماثلة سبل التصدير بشكلٍ كبير.

مسار الموت البطىء هذا يتقدّم رويدا رويدا… وقد زرعت بذوره سلطة أساءت الإدارة وما زالت تسىء… ولم تُنتِج سلطات الأمر الواقع الأخرى فى مختلف تعبيراتها ومناطق سيطرتها سوى مثيلاتها… وخلط الخارج بقدرٍ كبير من «الصفاقة» بين هذه السُلطات والدولة والشعب… إلى حدّ أنّه بات يُصرِّح أمام تفاقم الأزمة المعيشيّة أنّه لا يمنع استيراد الغذاء والدواء، لبلدٍ كان لديه، باعتراف الجميع، أمنٌ غذائى ودوائى.

عرف المسار المأساوى الطويل صدمات كبرى، ليس أقلّها نهب الصوامع وحرق المحاصيل وتدمير المنشآت. وفى كلّ مرّة حاول المجتمع السورى استعادة أموره… حتّى إنّ سعر الصرف ثبت نسبيّا بين 2016 و2019… ثمّ جاءت «القشّة التى قصمت ظهر البعير» مع الانهيار المالى فى لبنان، المستمرّ اليوم، والتحذير بانهيارٍ أكبر متزامن فى البلدين.

يبقى السؤال الجوهرى والأساسى والملحّ المطروح اليوم، مهما كانت هوّة التدهور، هو كيفيّة استعادة دولة قادرة وعادلة فى إدارة أمور المواطنين، تتعامل مع الخارج على أنّه «خارج» يهدف لتأمين مصالحه لا عونا لطرفٍ سياسى أو اجتماعى على الآخر. فى سوريا، كما فى لبنان. سؤالٌ يطرحه الجميع… والمعنيون عليهم البحث عن إجابات.

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربيةــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب.

الاقتباس:

مسار الموت البطىء هذا يتقدّم رويدا رويدا… وقد زرعت بذوره سلطة أساءت الإدارة وما زالت تسىء… ولم تُنتِج سلطات الأمر الواقع الأخرى فى مختلف تعبيراتها ومناطق سيطرتها سوى مثيلاتها… وخلط الخارج بقدرٍ كبير من «الصفاقة» بين هذه السُلطات والدولة والشعب.

سمير العيطة – الشروق[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

تعليق واحد

  1. كل تلك الاسباب صحيحة ولكنها ثانوية لان الاساس في سلاح الجوع هو المجرم الاسد بأوامر اسرائيلية امريكية برفع سعر بيع الليرة السورية للمواطن ورفع اسعار الوقود والمواد المعيشية الاساسية ليكون سلاح لقتل من تبقى داخل سورية او التهجير وهو الهدف الاساسي لتلك الحرب