التعاون مع الأسد !

يتولى الرئيس جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة في وقت تواجه فيه البلاد أزمات متعددة؛ جائحة «كورونا» والركود الاقتصادي واعتقاد أقلية كبيرة من الأميركيين بأنه لا يملك الحق في أن يكون رئيساً للبلاد. وبالنظر إلى ضخامة هذه التحديات، ربما تسود رغبة في نفوس مسؤولي الإدارة الجديدة لـ«الانتهاء» من أمر سوريا وقطع صلة الولايات المتحدة بالصراع الداخلي الذي يقترب من عامه العاشر.

وبالفعل، ثمة دعوات لإقرار إدارة بايدن سياسة تجاه سوريا تركز على «التعاون» (الانخراط) مع نظام الأسد على نحو يؤدي إلى بناء علاقات دبلوماسية بين الجانبين ويضمن المشاركة الأميركية في إعادة الإعمار الاقتصادي لسوريا تحت رعاية النظام.

ومع هذا، ينبغي لأنصار هذا التعاون أن يجيبوا أولاً عن سؤال: هل سيضع هذا التعاون حقاً نهاية لمشاركة الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها في الأزمة السورية أم يقلصها؟ دعونا نطرح السؤال بصيغة مختلفة: هل ستتراجع حدة الأزمة أم تنتهي بفضل عملية تبدأ بالتعاون؟ هل يمكن لسوريا، تحت قيادة الأسد، النجاح في إدارة إعادة الإعمار السياسي والاقتصادي للبلاد، وجعل سوريا أمراً آخر مختلفاً عن كونها مصدر تهديد للسلام الإقليمي والدولي؟ وهل يمكنها إنجاز إعادة إعمار يثمر استقراراً داخلياً وشرعية سياسية ويجعل من الصعب على المتطرفين الازدهار؟ هل بإمكان بلد محطم هرب جزء كبير من سكانه إلى الدول المجاورة ودول غرب أوروبا أن يعاين الاستقرار من جديد وأن يعاد بناؤه على يدي بشار الأسد؟

وإذا أجاب أنصار فكرة التعاون عن هذه التساؤلات بـ«نعم»، فإن هذا يكشف أنهم يعيشون في ذات العالم الموازي الذي يعيش فيه من يعتقدون أن دونالد ترمب فاز في انتخابات عام 2020 الرئاسية.

في واقع الأمر، يواجه بايدن نفسه مشكلة شرعية اليوم، ذلك أن الكثير من الجمهوريين يعتقدون أنه يشغل البيت الأبيض على نحو غير قانوني ـ اعتقاد طالما روّج له سلفه. ومع هذا، يبقى من الممكن أن ينجح بايدن في التغلب تدريجياً على هذا التحدي المرتبط بشرعيته عبر الحكم الرشيد اللائق وبالاعتماد على المنظومة القضائية الأميركية، لكن هل باستطاعة الأسد التغلب على مشكلة افتقاره إلى الشرعية؟

يدور مفهوم «الشرعية» حول اتفاق تقريباً جميع مواطني بلد ما على أن النظام الذي يحكمهم يستحق التأييد والدفاع عنه، حتى ولو اقترف قادته أخطاءً بعض الأحيان. وبالنظر إلى تاريخ النظام الأميركي، فإنه ليس من الصعب تخيل الاستعادة الكاملة للشرعية السياسية.

في المقابل، يحتاج المرء إلى خيال واسع للغاية لتخيل حدوث مثل هذه النتيجة داخل سوريا في ظل حكم عائلة الأسد. الحقيقة أنه حتى السوريون الذين ما يزالون يدعمون الأسد بسبب خوفهم من البدائل أو عجزهم عن رؤية بدائل من الأساس، يدركون تماماً مدى وحشية النظام وافتقاره إلى الكفاءة وفساده. وماذا عمن عارضوا النظام؟ لقد جرى نعتهم بـ«الإرهابيين» منذ الوهلة الأولى من جانب حكامهم، وتعرضوا إلى حملة إرهاب دونما توقف تضمنت عمليات قتل جماعي بحق مدنيين واحتجاز غير قانوني (تتضمن أعمال تعذيب واغتصاب وتجويع وقتل) وعمليات حصار ترمي لحرمان السكان من الطعام والرعاية الطبية.

والتساؤل هنا: هل من المتوقع أن يضفي الملايين من ضحايا النظام الشرعية عليه والإذعان له إذا ما اختارت واشنطن اعتبار الأسد جديراً بالتعاون معه؟ أم أن حالة الإرهاب المستمرة تبدو مقبولة لأنصار فكرة التعاون؟

تجدر الإشارة في هذا الصدد، إلى أن المجتمع الدولي أقر الانتقال السياسي الكامل باعتباره السبيل نحو الشرعية السياسية والسلام في سوريا. ويوجد هذا الإقرار في البيان الختامي لـ«مجموعة العمل حول سوريا» وفي قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254. ورغم أن روسيا نقضت تعهداتها بخصوص الانتقال السياسي السوري، وكذلك رغم أن الأسد يعي أن التنازل عن السلطة أو التشارك فيها مع طرف آخر يشكل بداية رحلته إلى لاهاي (المحكمة الدولية)، حيث ستجري محاكمته عن جرائم ضد الإنسانية، هل يعني ذلك أن باقي العالم، بقيادة الولايات المتحدة، ينبغي له التخلي عن هذا المسار على أمل إمكانية إرساء الاستقرار في سوريا وإعادة بنائها في ظل حكم الأسد؟

من ناحية أخرى، توحي تقارير متواترة بأن قاعدة تأييد الأسد بدأت في التململ. وفي الوقت الذي يزعم فيه النظام السوري كذباً أن العقوبات الأميركية السبب وراء المصاعب الاقتصادية التي يعانيها الجميع، فإن هذه القاعدة تعاين بوضوح جشع النظام ولامبالاته في وقت تتعمق فيه الأزمات الاقتصادية بالبلاد وتتفشى جائحة فيروس «كوفيد – 19» في أرجائه.

ودعونا نسأل هنا: هل هناك أي شخص داخل سوريا سبق أن أثنى على نظام الأسد قط لممارسته الحكم الرشيد أو إدارته الاقتصادية الفاعلة؟ هل هناك أي فئة من السوريين بخلاف النظام لن ترحب ببديل يمثل وحدة وطنية شاملة ليحل محل أسرة حاكمة وحاشية حولها لا يشغل تفكيرهما سوى مصالحهما الضيقة فحسب، بديل يرتقي بمكانة المواطنة فوق الطائفة والعرق، ويسعى نحو المصالحة من خلال العدالة الانتقالية، ويمد مظلة حماية الدولة لتشمل جميع السوريين؟

في الواقع، ستفاقم إدارة بايدن حالة غياب الاستقرار في سوريا إذا ما تعاونت مع نظام فاشل وأبقت عليه رغم افتقاده الشرعية. إن المعاونة على إطالة أمد بقاء النظام يعني بدوره إطالة أمد وضع سوريا كدولة ممزقة يرتع بها إرهابيون، من «القاعدة» أو «حزب الله»، في الوقت الذي يرحل عنها السوريون الذين يحلمون بالكرامة وفرص الحياة الحقيقية. في ظل حكم الأسد، لا يمكن لسوريا لأن تطمح إلا لأن تصبح نسخة شرق أوسطية من كوريا الشمالية.

وكشفت مساعي إدارة أوباما لإبرام اتفاق نووي مع إيران السبب وراء رفضها توجيه ضربات عسكرية محدودة للدفاع عن المدنيين السوريين في مواجهة حملات القتل الجماعية التي يشنها النظام. المؤكد أن الأسد يمثل أهمية حيوية لإيران، فهو الوحيد الذي يظهر استعداده لإخضاع سوريا لطهران ومندوبها في لبنان: «حزب الله».

إلا أن المرء لا يسعه سوى الأمل في أن يكون فريق العمل المعاون لبايدن، قد تعلم أن ما يحدث في سوريا لا يبقى داخل حدودها، وأن تجاوز الخطوط الحمراء وسعي «المرشد الأعلى» (الإيراني) الحثيث لضمان حصانة عميله السوري يتسببان في تفشي الضعف وغياب الاستقرار بمختلف أرجاء العالم.

والآن، هل «انتصر» الأسد؟ لا، لم ينتصر. فيما يتعلق بتمكن إيران وروسيا من إنقاذه عسكرياً، يمكننا هنا استحداث مفهوم جديد: «الانتصار الكارثي». في الواقع، يبدو الأسد ماهراً للغاية في صياغة استراتيجية بقاء تعتمد على الإرهاب. ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية، بجانب فساد النظام وانعدام كفاءته، أفقداه شرعيته وقدرته على ممارسة الحكم بفاعلية.

والواضح أن مهمة إنقاذ النظام بدعوى التعاون ستنتهي بالفشل. وليس ثمة فائدة يمكن أن تجنيها الولايات المتحدة وحلفاؤها وشركاؤها من وراء التعاون مع مجرم الحرب الأول (حتى يومنا هذا) في القرن الـ21 والمتسبب في دمار سوريا. ولا شك أن موسكو وطهران تأملان بشدة في أن تمد الإدارة الأميركية الجديدة شريان حياة لعميلهما المتداعي.

الواقع أن الانتقال السياسي وحده القادر على وضع سوريا على طريق إعادة الإعمار بينما يوفر الحماية للدول، بما في ذلك الولايات المتحدة، التي تواجه تهديداً من تداعيات حملة الإرهاب التي يشنها نظام الأسد. وعليه، ينبغي أن يبقى الانتقال السياسي، مدعوماً بالانضباط والصبر والمساعدات الإنسانية وحماية الفئات السورية الأشد تضرراً، الأساس الذي تقوم عليه سياسة إدارة بايدن تجاه سوريا. وإذا كان التعاون السبيل الذي يرغب فيه النظام، فعليه أن يرسل وفداً يملك السلطات اللازمة إلى الأمم المتحدة في جنيف للتفاوض حول شروط الانتقال السياسي السوري.

فريدريك سي هوف – الشرق الأوسط

* مدرس في بارد كوليدج في نيويورك. عمل خلال عامي 2011 و2012 مستشاراً لوزير الخارجية الأميركي لشؤون الانتقال السياسي في سوريا

 [ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها