دويتشه فيله : ألمانيا و معضلة موقفها من الأزمة السورية

في الشهر الماضي، أصبحت ألمانيا أول دولة في العالم تدين عنصراً سابقاً في المخابرات العسكرية السورية سيئة الصيت طبقاً للقانون الدولي، والحكم صدر بعد شهور من الاستماع لشهادات حول خروقات ممنهجة لحقوق الإنسان في سوريا.

لكن قبل هذا الحكم بفترة وجيزة، تصدّرت ألمانيا عناوين الصحف بكونها أول قوة أوروبية تقرر أن الوضع في سوريا بات آمناً بما يكفي لإعادة السوريين المدانين بجرائم كبيرة، والبالغ عددهم حتى الآن 90 شخصاً ينتظرون الترحيل.

وهذان الحدثان مؤشران على تعقيد العلاقة بين ألمانيا وسوريا، وبينها وبين نحو 800 ألف سوري طالب للجوء على أراضيها، والذين وصلوا إليها منذ عام 2015.

وفي الرابع والعشرين من شباط الماضي، حكم قضاة المحكمة العليا في مدينة كوبلنز الألمانية على إياد أ بالسجن أربعة أعوام ونصف العام، بتهمة المساعدة والحض على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في 30 حالة.

والقضية التي يحاكم من أجلها إياد لم تنته بعد، فما يزال هناك أنور ر، وهو عقيد سابق في المخابرات العسكرية، أشرف على عمليات الاستجواب في الفرع 251، وهو سجن ومكتب أمني سيء الصيت.

ويُحاكم أنور أيضاً بتهمة الضلوع في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وهذه الجرائم تضم تعذيب نحو أربعة آلاف شخص بين عامي 2011 و2012.

وشهادة الناجين السوريين وآخرين أثبتت وجود “هجمات مكثفة وممنهجة على السكان المدنيين”، بحسب ما ذكر قضاة محكمة كوبلنز في لائحة إدانة إياد أ.

لكن حتى فيما كان القضاة الألمان يستمعون لساعات من الشهادات حول انتهاكات حقوق الإنسان على يد النظام السوري، فإن ساسة البلاد كانوا يتخذون قرارات مغايرة، ففي كانون الأول عام 2020، سمح وزير الداخلية الألماني هورست زيهوفر بسقوط المنع المفروض منذ عام 2012 على ترحيل السوريين إلى بلادهم، والذي كان يُجدد كل ستة شهور منذ ذلك الحين على مستوى الدولة ومستوى الولايات الألمانية. قرار التجديد يتطلب أغلبية أصوات وزراء داخلية الولايات، ولكن العام الماضي شهد انقساماً بينهم على طول خطوط الأحزاب الليبرالية والمحافظة.

وهذا القرار سيكون “صدعاً في السد”، بحسب ما قالت منظمة “برو أزول” الألمانية لحقوق الإنسان، وهنالك مخاوف لدى منظمات حقوق الإنسان من أن القرار سيجبر ألمانيا على إعادة العلاقات الدبلوماسية مع الحكومة السورية على مستوى أرفع، ما سيجعل ألمانيا أول دولة أوروبية كبرى تعترف بنظام بشار الأسد.

ويقول رئيس منظمة “برو أزول”، غونتر بوركهارد، إن النظام السوري “سيصبح بذلك أكثر قبولاً”، لأنه “دون علاقات دبلوماسية، فإن الترحيلات ستكون مستحيلة”.

وبالرغم من إغلاق ألمانيا سفارتها في دمشق عام 2012، إلا أنها لم تقطع علاقاتها تماماً مع سوريا.

ويقول شتيفان تالمون، أستاذ القانون في معهد القانون الدولي بجامعة بون، إن برلين ما تزال تستضيف سفارةً لسوريا، وهناك بكل تأكيد اتصالات على المستوى الإداري.

ويضيف تالمون: “المسألة تتعلق بتعميق العلاقات.. الأمر يشبه فرن الطهي، إذ يمكن زيادة قوة الشعلة أو خفضها، وفي الوقت الحالي، فإن الشعلة ما تزال منخفضة نسبياً، ولكن يمكن زيادة قوتها”، ويشير أستاذ القانون الألماني إلى أن “أعلى قوة للشعلة” ستتضمن اتصالات بين ساسة ألمان وسوريين.

وحتى هذه اللحظة، لا توجد أي تحركات في هذا الصدد، إذ ما تزال وزارة الخارجية الألمانية تصف وضع حقوق الإنسان في سوريا بـ”الكارثي”.

وفي مطلع الشهر الحالي، توجهت صحيفة “تاغس تسايتونغ” بسؤال لعدد من الوكالات الحكومية، بما فيها حكومات ولايات ألمانية، حول ما إذا كانت هناك ترحيلات قد تمت أو قيد التخطيط، فجاء الجواب بأنه لم يكن هناك أي ترحيل، وبعض المسؤولين قالوا إنهم لا يعتقدون بأن القضاة المحليين، الذين يجب أن يوقعوا على أي أمر بالترحيل، سيوافقون على هذه الإجراءات في الوقت الراهن.

كيف يمكن، إذن، تفسير القرارات الألمانية المتناقضة تجاه سوريا؟، يجيب رينيه فيلدآنغل، خبير في العلاقات الأوروبية مع الشرق الأوسط وباحث سابق في مجلس العلاقات الخارجية الأوروبي، بأن “هناك فروعاً مختلفة تماماً في الحكومة تعمل بشكل منفصل.. إنها ليست أزمة هوية.. الحكومة الألمانية لديها عدة مؤسسات ومنظمات ذات وجهات نظر مختلفة”.

لذلك، فالقرارات التي يتخذها وزراء الداخلية على مستوى الولايات لا تعني تحولها إلى سياسة للدولة ككل، بعكس وزارة الخارجية، ويضيف فيلدآنغل: “نحن أيضاً في عام انتخابات، ليس فقط على المستوى الاتحادي، ولهذا، فإن النقاشات ذات الطابع الشعبوي ربما ليست مفاجئة، والبعض يريد أن يبدو أكثر صرامة، حتى رغم أنهم لن يقوموا بترحيل أي أحد (إلى سوريا).. الأمر سخيف”.

والساسة الذين عارضوا قرار وزراء الداخلية وصفوه بغير الواقعي، وبأنه مرتبط أكثر بالسياسات الداخلية، وأنه يأتي لإرضاء الشعبويين والمحافظين المعارضين للهجرة.

وفي نفس الوقت، فإن قرار محكمة كوبلنز التاريخي جاء من جهة أخرى تماماً، وهو يحصل ربما خارج إطار السياسة، فقرار المحكمة هذا كان ممكناً بسبب توليفة محظوظة من العوامل، بما فيها وصول آلاف شهود العيان المحتملين على جرائم الحرب السورية عام 2015، عندما دخل نحو مليون طالب لجوء البلاد، بالإضافة إلى جهود وحدة جرائم الحرب في مكتب المدعي العام الاتحادي الألماني، التي كانت تجري تحقيقاتها في سوريا منذ عام 2011.

وبالإضافة إلى ذلك، وبحسب ما صرح به المدعي العام، ياسبر كلينغه، للصحفيين عند بدء المحاكمة: “مسؤوليتنا التاريخية تعني أننا (كألمان) يجب أن نضطلع بمثل هذه القضية، وذلك بما هو ممكن لنا أن نقوم به”.

ويقول رينيه فيلدآنغل إن هذين المسارين – محاكمات جرائم الحرب وقرارات الترحيل – لن يتعارضا مع بعضهما البعض، وبدلاً من ذلك، يجادل الباحثون بأن قضايا مثل تلك أمام محكمة كوبلنز تمثل طريقةً أكثر عقلانية للمضي قدماً، نحو سوريا يمكن أن يعود إليها اللاجئون يوماً ما، ومعها يمكن أن تعيد أوروبا علاقاتها الدبلوماسية مستقبلاً.

وحول ذلك، كتبت مورييل آسبورغ، باحثة رئيسية في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية في برلين، في تموز 2020، أن “أي تقارب مع دمشق يجب أن يكون معتمداً على خطوات سياسية ثابتة وموثقة، وكي تكون هنالك أي فرصة لنجاح ذلك، يجب رفع الحصانة عن المتهمين وتقوية سيادة القانون”، وأضافت آسبورغ في تقريرها أنه لا يمكن أن تُبنى علاقات مع القادة المتورطين في ارتكاب جرائم حرب.

ويخلص الخبير رينيه فيلدآنغل إلى أنه “إذا أردت سياسة واضحة في سوريا، عليك الحديث عن إعادة الإعمار من منظور متعدد الأوجه.. منظور يمكنك من خلاله تقييم كافة الأطراف المشاركة وعدم التضحية بالسكان المدنيين على طريق تحقيقه”.

كاثرين شي – دويتشه فيله[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها