هل نقل البشر كائنات حية إلى المريخ دون قصد ؟
يقول كريستوفر ميسون، عالم الوراثة، إن البشر أرسلوا نحو 30 مركبة ومسباراً فضائياً إلى كوكب المريخ منذ بداية عصر استكشاف الفضاء. وأصبح لدينا الآن معلومات كافية عن الميكروبات التي تحملت الظروف القاسية للرحلات الفضائية إلى الكوكب الأحمر.
في الوقت الذي تقرأ فيه هذه المقالة، تتحرك آلة ضخمة ببطء على سطح المريخ. لا تتجاوز سرعة “بيرسفيرانس”، مركبة الفضاء الجوالة التي يعادل حجمها حجم السيارة وهبطت بأمان على سطح المريخ في 18 فبراير/شباط العام الحالي، 0.1 ميل في الساعة، وتحمل على متنها مجموعة من الأدوات والأجهزة والتجارب التي حققت بالفعل إنجازات غير مسبوقة.
وكان على متن المركبة، التي يبلغ طولها ثلاثة أمتار، آلة حولت الهواء الرقيق والغني بثاني أكسيد الكربون على ظهر كوكب المريخ إلى أكسجين، ومروحية يحجم صندوق الأنسجة عُدت أول مركبة في التاريخ تقوم برحلة جوية يُتحكم فيها على كوكب آخر. ونفذت المروحية التي يطلق عليها اسم “إنجينويتي” ثلاث رحلات جوية ناجحة، كانت كل منها أطول وأكثر ارتفاعاً من سابقتها.
لكن بخلاف كل هذه الأجهزة، هل نقلت المركبة شيئاً آخر؟ هل من الممكن أن تكون هذه المركبة الفضائية نقلت إلى الفضاء من دون قصد بكتيريا أو أبواغ تحملت مشقة الرحلة واتخذت من المريخ مقراً جديداً لها؟
صحيح أن وكالة ناسا الفضائية ومهندسيها في مختبر الدفع النفاث وضعوا بروتوكولات دقيقة وشاملة لضمان خلو المركبة الفضائية من أي كائنات حية قد تنتقل من دون قصد إلى الفضاء عبر بعثة فضائية، إلا أن دراستين سلطتا الضوء مؤخراً على كيفية تحمُّل بعض الكائنات المجهرية لعمليات التنظيف والظروف القاسية في الرحلات الفضائية إلى المريخ، ومدى سرعة تطور الميكروبات في الفضاء.
ولنبدأ أولا بعرض خطوات عملية بناء المركبة الفضائية الجوالة “بيرسفيرنس”، وكذلك معظم المركبات التي صنعت في منشآت تجميع المركبات الفضائية بمختبر الدفع النفاث.
فعلى غرار البصل، تتكون المركبة الفضائية من طبقات، تصنّع كل منها على حدة، وتنظف كل طبقة وتُعقم قبل رصها فوق الطبقات الأخرى. وبهذه الطريقة، يمكن التأكد من أن المعدات التي سترسل إلى الفضاء تكاد تكون خالية من البكتيريا أو الفيروسات والفطريات أو الأبواغ.
وتُنفذ عملية بناء المركبة الفضائية في غرف معقمة مطابقة لمعيار “أيزو-5” الذي حددته المنظمة العالمية لتوحيد المقاييس (ويشير معيار “أيزو-1” إلى المنشآت الأكثر نظافة، بينما يشير “أيزو-9” إلى أقلها نظافة).
وتتضمن الغرف مرشحات هواء وتخضع لتدابير مراقبة بيولوجية صارمة. وتصمم هذه الغرف لضمان أن عدد الجسيمات في كل قدم مربع لا يتجاوز بضع مئات وأن عدد الأبواغ في كل متر مربع لا يتجاوز بضع عشرات.
لكن التخلص من الكتلة الحيوية تماما يكاد يكون مستحيلا. إذ تعيش الميكروبات على الأرض منذ مليارات السنين، وتوجد في كل مكان من حولنا وداخل أجسامنا. وقد يتسلل بعض الميكروبات إلى الغرف المعقمة الأكثر نظافة على الاطلاق.
وكانت فحوص التلوث البيولوجي في الماضي تعتمد على إمكانية استنبات الكائنات الحية من العينات التي جمعت من الأجهزة والمعدات الفضائية. لكن الآن نستخدم في المعامل طرقاً جديدة، إذ نجمع عينة محددة ونستخلص منها الحمض النووي ثم نحدد ترتيب النيوكليوتيدات في الحمض النووي عن طريق تكسير الخلايا في العينة إلى مليارات من جزيئات الحمض النووي. ثم نحدد ترتيب النيوكليوتيدات في كل جزء حمض نووي على حدة، ثم نجمع الجزيئات معاً ونعيدها إلى جينوم النوع المسجل بالفعل في قاعدة بيانات تسلسل الحمض النووي.
ونظرا لأنه بإمكاننا الآن تحديد تسلسل الحمض النووي لجميع الكائنات المجهرية في الغرف المعقمة، وليس الكائنات المجهرية التي يمكن استنباتها في المختبر فحسب، فقد أصبحت لدينا صورة أكثر شمولاً عن أنواع الميكروبات التي قد توجد في الغرف المعقمة ومدى قدرتها على تحمل بيئة الفضاء الخارجي.
وقد عثرنا على أدلة في الغرف المعقمة بمختبر الدفع النفاث تؤكد وجود ميكروبات قد تسبب مشاكل أثناء البعثات الفضائية. وتتضمن هذه الكائنات المجهرية عدداً أكبر من المعتاد من الجينات التي تستخدمها لإصلاح الحمض النووي، وهو ما يكسبها مقاومة أكبر ضد الإشعاعات. وقد تشكل شريطاً حيوياً على الأسطح والمعدات وتتحمل عمليات التجفيف وتتكاثر في البيئات الباردة. وقد تبين أن الغرف المعقمة قد تهيئ الظروف المواتية لتطور الميكروبات الأكثر قدرة على تحمل الظروف المتطرفة، وبذلك تكون لديها فرص أكبر لتحمل الرحلة إلى المريخ.
وبحسب “هيئة الإذاعة البريطانية”، هذه النتائج لها تداعيات على نظم حماية الأجرام السماوية الأخرى من التلوث بالميكروبات التي تعيش على الأرض. فقد تُنقل ميكروبات عمدا أو سهوا من الأرض إلى الكواكب الأخرى. وتكفل هذه النظم سلامة وصون أشكال الحياة في أي مكان في الكون خارج الأرض، لأن الكائنات الدقيقة عندما تصل إلى نظام بيئي جديد قد تسبب مشاكل جسيمة.
ومن المعروف أن سجل البشر في احتواء الفيروسات على كوكب الأرض مليء بالإخفاقات. فقد انتشر داء الجدري على سبيل المثال على أغطية قدمت للقبائل الأصلية في أمريكا الشمالية في القرن التاسع عشر. وحتى في عام 2020، عجزنا عن احتواء تفشي الفيروس المسبب لوباء كورونا.
وقد يؤثر أيضا تلوث الكواكب الأخرى بميكروبات منقولة من الأرض على نتائج الأبحاث والتجارب العلمية. فعند سبر أغوار الكواكب الأخرى، ينبغي أن يضمن العلماء أن أشكال الحياة التي تكتشف على أي كوكب آخر نشأت في الكوكب وليست منقولة من كوكب الأرض.
فقد تلتصق الميكروبات بالمركبات الفضائية وتتحمل عمليات التعقيم والإشعاعات وتصل إلى كوكب المريخ، وربما تتغير المادة الوراثية لهذه الميكروبات إلى درجة أنها قد تبدو كأنها من عالم آخر. فقد اكتشفت مؤخرا ميكروبات تحورت على محطة الفضاء الدولية. وإذا عثر العلماء على هذه الأنواع من الميكروبات على تربة المريخ، فقد يتوهمون أنها أحد أشكال الحياة على كوكب المريخ.
وقد تمثل الميكروبات المنقولة إلى الفضاء خطراً على صحة رواد الفضاء، وربما تتسبب في تعطل أنظمة ومعدات دعم الحياة إذا شكلت الكائنات المجهرية مستعمرات عليها.
ومن جهة أخرى، ثمة نظم وتدابير لحماية كوكب الأرض من الكائنات الحية التي قد تُنقل عبر المركبات الفضائية إلى كوكب الأرض من الكواكب الأخرى، والتي قد تهدد أشكال الحياة على كوكبنا، حتى البشر.
وتناولت أفلام خيال علمي عديدة هذه الفكرة، عندما يغزو كائن فضائي الأرض ويهدد جميع أشكال الحياة عليها. غير أن هذه المخاوف قد تتحقق، عندما ترسل وكالة ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية البعثة الفضائية إلى المريخ المقرر إطلاقها في عام 2028، وإذا سارت الأمور كما هو مخطط لها ستحمل هذه البعثة عينات من المريخ إلى الأرض في عام 2032.
وأثيرت مخاوف من أن تكون أشكال الحياة التي تكتشف على المريخ قد نشأت على كوكب الأرض. فمنذ أن هبط المسباران السوفيتيان في عام 1971 على سطح المريخ، ثم المسبار الأمريكي “فايكينغ 1” في عام 1976، من المرجح أن هذه البعثات الفضائية قد تركت جزيئات من الحمض النووي للميكروبات أو ربما البشر على المريخ.
لكن ثمة طرق للتمييز بين الكائنات الحية أو الحمض النووي المنقول من الأرض إلى المريخ وبين أشكال الحياة التي نشأت على المريخ. إذ يحوي كل تسلسل حمض نووي معلومات عن مصدره. ويركز مشروع “ميتاساب” (ميتاجينوميات الأنفاق والمواطن البيئية في المدن) على تحديد ترتيب النيكليوتيدات في الأحماض النووية التي عثر عليها في أكثر من 100 مدينة حول العالم. ويعمل الباحثون في مختبرنا وفريق “ميتاساب” وفريق من سويسرا على بناء “قائمة وراثية لكوكب الأرض” تضم تسلسل الحمض النووي لجميع العينات التي جمعت من مختلف البيئات.
وبمقارنة الحمض النووي المكتشف على المريخ بتسلسلات الحمض النووي المكتشفة في الغرف المعقمة لمختبر الدفع النفاث أو الأنفاق في العالم أو العينات السريرية أو مياه الصرف الصحي أو سطح مركبة “بيرسفيرنس” قبل مغادرة الأرض، من الممكن التحقق من مصدر هذه الأحماض النووية.
وإذا انتقلت الميكروبات من دون قصد إلى الكواكب الأخرى، في خضم الاستكشافات الفضائية في نظامنا الشمسي، أغلب الظن أن هذه الميكروبات ستطرأ عليها تغيرات كبيرة. فمن المرجح أن السفر إلى الفضاء والبيئات الاستثنائية التي واجهتها ستترك أثراً عليها وتدفعها للتطور.
ولقد لاحظ العلماء في معملنا وفي مختبر الدفع النفاث أن الأنواع العجيبة المكتشفة مؤخراً في محطة الفضاء الدولية طورت نفس طرق التكيف التي استخدمتها الميكروبات في الغرف المعقمة (مثل اكتساب مقاومة للإشعاعات).
ويبحث مشروع الميكروبيوم في البيئات المتطرفة عن الخصائص البيولوجية الاستثنائية التي تكتسبها الكائنات المجهرية، ومن المحتمل أن يستفاد من هذه المعلومات في بعض الأبحاث على كوكب الأرض. فقد تستخدم التكيفات التي تطورها هذه الميكروبات للبحث عن مستحضرات جديدة للوقاية من الشمس أو إنزيمات لإصلاح الحمض النووي للحماية من الطفرات المضرة التي قد تسبب السرطان أو للمساعدة في تطوير أدوية جديدة.
وعندما يصل البشر في نهاية الأمر إلى كوكب المريخ، سينقلون معهم طائفة متنوعة من الميكروبات التي تعيش على أجسامنا وداخلها، وهذه الميكروبات ستتحور وتتغير وتتأقلم مع البيئات الجديدة، وربما تساعد على تهيئة الظروف المواتية للعيش على المريخ، لأن العلماء قد يحددون تسلسل المادة الوراثية الفريدة التي ساعدتها على التأقلم مع بيئة كوكب المريخ ويستخدمونها في العلاج أو الأبحاث في الكوكبين.
وبالنظر إلى البعثات الفضائية التي من المقرر إرسالها إلى المريخ، فنحن نقف على أعتاب عهد جديد من الأبحاث البيولوجية بين الكواكب، إذ سنتعرف على التكيفات التي طورتها إحدى الكائنات الحية لنطبقها على غيرها من الكائنات. إن دروس التطور والتكيفات الوراثية مسجلة في الحمض النووي لكل كائن حي، وهذا ينطبق على بيئة كوكب المريخ.
وقد أصبح استكشاف الكواكب الأخرى والأنظمة الشمسية واجباً أخلاقياً يقع على عاتق البشر لحماية جميع الأنواع الأخرى. وذلك لأن البشر وحدهم يعرفون مصير كوكب الأرض، ومن ثم بإمكانهم وحدهم حماية الأنواع الأخرى على ظهر الكوكب من الانقراض، سواء في الوقت الراهن أو بعد مليارات السنين، عندما تغلي المحيطات وترتفع درجة حرارة كوكب الأرض إلى حد لا يطاق.
وبمجرد انطلاق البشر إلى النجوم الأخرى، ستزداد مخاطر التلوث الناجم عن الاستكشافات الفضائية، لكن في هذه الحالة لن يكون ثمة مفر من اكتشاف كوكب آخر صالح للحياة. وسيكون الحل الوحيد لحماية أشكال الحياة هو النقل الحذر والمسؤول للميكروبات إلى الكواكب الأخرى، وهذه الخطوة يجب أن تتخذ الآن إذا أردنا أن نتأقلم مع البيئات في الكواكب الأخرى على مدى السنوات الـ 500 القادمة.[ads3]