دويتشه فيله : ما بعد ميركل .. تعثر ” الخضر ” يُرجح سيناريو الاستمرارية

تكتسي الانتخابات التشريعية الألمانية، المقرر إجراؤها في الخريف المقبل (26 أيلول 2021)، أهمية استثنائية لأنها ستؤسس عملياً لمرحلة جديدة، بعدما قررت المستشارة أنغيلا ميركل الانسحاب من الحياة السياسية بعد 16 عاماً على رأس أكبر بلد أوروبي.

وما تزال التساؤلات مفتوحة حول الاسم الذي سيخلفها، وعما إذا كان الألمان سيختارون التغيير الجذري بشكل يعيد تشكيل المشهد السياسي برمته، أم أنهم سيسلكون طريقًا أكثر اعتدالاً بمعنى التحول ضمن الاستمرارية، وكان يُعتقد على نطاق واسع أن حزب الخضر قد يلعب دوراً رئيسياً ليكون العنوان الأبرز لقطيعة مع عهد ميركل، غير أن استطلاعات الرأي الأخيرة أظهرت أن طريق الخضر إلى السلطة العليا لن يكون مفروشاً بالورود، إذ يبدو أن ما بات يسمى بـ”فقاعة” أنالينا بيربوك، مرشحة الحزب إلى منصب المستشارية في طور الانقشاع إعلامياً، في ظل التراجع المطرد لشعبيتها بسبب عدد من الأخطاء التي ارتكبتها.

وبهذا الصدد كتبت “فرانكفورته ألغماينه تسايتونغ”، الجمعة: “من الواضح أن مرشحة الخضر التي تسعى لحكم ألمانيا، ليست في وضع يسمح لها بتكوين فريق قوي ومتصل بشبكات قادرة على استشعار ورصد الأزمات مبكرًا، يبدأ بإطفاء الحرائق الصغيرة قبل أن تصبح كبيرة”.

وهناك من يرى أن البروز الإعلامي لبيربوك، وحتى الاهتمام الشعبي المتزايد بحماية البيئة ليسا كافيين لإحداث ثورة وبالتالي قطيعة سياسية جذرية في الانتخابات المقبلة.

والتجربة أظهرت أن استطلاعات الرأي ليست علماً دقيقاً لتوقع نتائج الانتخابات، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك في تاريخ ألمانيا الحديث، فالمستشار السابق غيرهارد شرودر حقق عشر نقاط مائوية إضافية، مكذباً ما توقعته الاستطلاعات في حملتين انتخابيتين متتاليتين (2005 و2005)، كما أن أنغيلا ميركل والتكتل المسيحي كانا في حدود 50% من نوايا الناخبين، غير أن النتائج النهائية لم تتجاوز 35%.

والأمثلة كثيرة في هذا الشأن، فقد وصلت شعبية الحزب الديمقراطي الاشتراكي تحت قيادة مارتن شولتس إلى ذروتها عند 33% في الحملة الانتخابية لعام 2017، فيما لم تتجاوز النتيجة الفعلية 20.5%.

وحزب الخضر ظل متشبثاً بترشيح أنالينا بيربوك لمنصب المستشارية، رغم اقرارها بارتكاب “أخطاء” أضعفتها في السباق نحو خلافة أنغيلا ميركل، وقد عبر الخضر عن رغبتهم في أن يكونوا أحد العناوين الرئيسية في مرحلة ما بعد انسحاب المستشارة القوية من الحلبة السياسية.

وقالت بيربوك، في مؤتمر تعيينها مرشحة من قبل الحزب (12 حزيران 2021)، إن “حقبة تشارف على نهايتها وترتسم أمامنا إمكانية بدء حقبة جديدة”، وأضافت: “حان الوقت لتجديد بلدنا”.

وعكس الانطباع الذي ساد في البداية، فإن آفاق فوز كاسح للخضر يبدو بعيد المنال بعد أن كانوا أصحاب أوفر الحظوظ في استطلاع أجري في 26 أيلول، فلوهلة، اعتقد المراقبون أن الخضر قد يتزعمون ثورة شاملة تعيد تشكيل المشهد السياسي الألماني بعد تصدرهم لفترة نوايا تصويت الناخبين، غير أنهم تراجعوا بشكل ملفت في الاستطلاعات الأخيرة أمام التكتل المسيحي المحافظ رغم ضعف شعبية زعيمه أرمين لاشيت، كما تكبد الخضر هزيمة قاسية في السادس من حزيران 2021 في الانتخابات المحلية في ولاية سكسونيا أنهالت، إذ كانوا يأملون في تجاوز عتبة عشرة بالمائة من الأصوات، غير أنهم لم يتجاوزوا 6%، متأخرين عن التكتل المسيحي (36%) واليمين الشعبوي (21%).

ورغم أن الأمر يتعلق بانتخابات محلية، لكنها اعتبرت مؤشراً على أن الخضر ليسوا في وضع يجعلهم قادرين على تحقيق اكتساح على المستوى الاتحادي، رغم أن موضوع البيئة والتغير المناخي تتصاعد أهميته باطراد، وهو ما سيظل أهم رأسمال لتعزيز دور الحزب في المشهد السياسي. “فرانكفورته ألغماينه تسايتونغ” كتبت بهذا الصدد (الخامس من تموز): “سوف يفعل الخضر كل ما بوسعهم لإعادة موضوع التغير المناخي إلى دائرة الاهتمام.. التكتل المسيحي كما الحزب الديمقراطي الاشتراكي ضعيفان من حيث جهلهما لكيفية تحقيق الأهداف المناخية التي حددوها بأنفسهم”.

وتواجه رئيسة الحزب لمنصب المستشارية أنالينا بيربوك عقبات في توجهات الرأي العام، إذ أظهر آخر استطلاع للرأي اعتبار غالبية الناخبين الألمان، أنه كان من الخطأ اختيارها بدلاً من زميلها الذي يشاركها في رئاسة الحزب روبرت هابيك، للترشح لمنصب المستشارية، وكشف استطلاع أجراه معهد “سيفي” لحساب صحيفة “أوغسبورغر ألغماينه”، الصادرة في الثالث من تموز، أن 61% من الألمان لا يؤيدون قرار الحزب، مقابل 24% فقط يرونه صائباً، غير أن نفس الاستطلاع أظهر أن 64% من أنصار الحزب موافقون على ترشيح بيربروك، مقابل 24% الذين يرون عكس ذلك، فيما يرى 14% فقط من الناخبين الألمان في عموم البلاد أن بيربوك ستكون المستشارة التالية لألمانيا خلفاً لأنغيلا ميركل، ويعتقد 79% انعدام فرص بيربوك في تحقيق نجاح في الانتخابات يؤهلها لشغل هذا المنصب.

وكان المستشار الألماني الأسبق، هيلموت كول، يطلق على أنغيلا ميركل لقب “تلميذة”، ولم تخرج ميركل من عباءته إلا بعد فترة طويلة في عام 2001، عندما كان الحزب المسيحي الديمقراطي “CDU” في المعارضة، وكانت ميركل زعيمة الحزب، غير أن فرصتها الكبيرة لم تأت إلا عام 2005.

وصحيفة “آوغسبورغه ألغماينه” (السابع من تموز) ذهبت إلى حد اعتبار أن سيناريو “دفع الخضر ببيربوك إلى التنازل عن العرش، سينهي مسيرتها السياسية بشكل فوري، وفي حال حدوث ذلك، فلن تتمكن حتى من تولي منصب وزاري إذا قرر الحزب دخول الحكومة.. لذلك يتعين على المرشحة بيربروك إثبات أنها قوية بما يكفي لتحمل الرياح المعاكسة”.

يذكر أنه بعد اختيار الخضر لبيربوك في منتصف نيسان مرشحة له لمنصب المستشارية، حققت شعبية الحزب ارتفاعاً قياسياً في مرحلة أولى، بل تجاوزت نسبة تأييد الخضر حينها نسبة تأييد التكتل المسيحي الذي تقوده ميركل، وذلك قبل أن تتراجع هذه النسبة تدريجياً في سياق سلسلة من القضايا موضع الجدال.

وارتكبت أنالينا بيربوك، منذ إعلان ترشيحها، عددًا من الأخطاء الصغيرة ولكنها مزعجة، من بينها سيرتها الذاتية غير الدقيقة المليئة بالأخطاء وإن كانت بسيطة نسبيًا، عدم تصريحها بمداخيل تلقتها من قبل حزبها، وهو أمر محرج خاصة، بالنسبة لحزب يضع الشفافية عنواناً عريضاً لبرنامجه السياسي، إضافةً إلى اتهامات بالسرقة الأدبية أو على الأقل بعدم الدقة في الاستشهادات في كتاب ألفته المرشحة لخلافة ميركل.

وصحيفة “تاغس شبيغل” البرلينية (التاسع من تموز) علقت على أخطاء بيربوك، وسردت عددًا من حالات السرقات الأدبية لسياسيين قبلها، وكتبت: “بدون غوغل ما كان لقضية بيربوك أن تنفجر ولا قضية غوتنبيرغ (وزير الدفاع السابق)، فهل بات السياسيون اليوم أكثر عبثًا وقسوة مما كانوا عليه من قبل؟.. هذا أمر غير دقيق فالذي تغير هو الوسائل والأدوات للتحقق من تفاصيل السيرة الذاتية والأكاديمية، وبالتالي فإن أمل عدم الكشف عن سوء في السلوك هو أمر ساذج (من قبل السياسيين)”.

وتعثر الخضر في السباق نحو المستشارية لا يعود فقط لأخطاء مرشحتهم، وإنما أيضاً لعدم اليقين مما إذا كانوا قادرين كحزب على إقناع الألمان بضرورة تغيير جذري للتوجه السياسي للبلاد، على غرار ما قام به المستشار فيلي براندت عام 1969، الذي قاد إصلاحات اقتصادية واجتماعية جذرية وغير توجه السياسة الخارجية، وبهذا الصدد، كتبت صحيفة “هاندلس بلات” (18 حزيران): “حتى بعد انقشاع فقاعة بيربوك، فإن دعم حزب الخضر أعلى بكثير مما كان عليه الأمر في عام 2017، كن مستوى هذا الدعم حالياً، ليس كافياً لإحداث تغيير جذري”.

وبعد عدة أشهر من التراجع أمام الخضر، عاد التكتل المسيحي بقوة إلى تصدر نوايا التصويت ليراوح الآن حوالي 30% من نوايا الناخبين، وفقًا لاستطلاعات الرأي، وعلى الرغم من ضعف شعبيته، استفاد لارمين لاشيت (مرشح المحافظين لخلافة ميركل) رئيس الحزب الديمقراطي المسيحي ورئيس وزراء ولاية شمال الراين فيستفاليا، من الأخطاء التي ارتكبها الخضر، غير أن المفارقة تكمن في أن المحافظين لا يرغبون في المبالغة في انتقاد الخضر الذين يمكن وفق استطلاعات الرأي، أن يكونوا شركاء لهم في الائتلاف الحكومي المقبل، وقد يشمل هذا الائتلاف كذلك الليبراليين الألمان من الحزب الديمقراطي الحر.

ولاشيت سياسي ذو تجربة طويلة، وهو من أقرب المقربين من ميركل، ويمكنه الاعتماد على معسكر يبدو أنه نجح في إنهاء النزاعات بين قياداته، معسكر مصمم على الاستفادة من مناخ التعافي بعد جائحة كورونا للبقاء في السلطة لأربع سنوات أخرى، والمحافظون على وعي بأهمية موضوع التغيير المناخي، كما ظهر في برنامجهم الانتخابي بتحديد هدف تحقيق “حياد الكربون” بشكل كامل عام 2045، خصوصاً بعدما ذكرت به محكمة العدل الأوروبية مؤخرا.

وعلى الصعيد الدولي، يغلب على البرنامج الطابع الاطلسي والمؤيد لأوروبا، ويدعو كذلك إلى احتواء محاولات الهيمنة من قبل الصين ويرفض تماما انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.

وصحيفة “نويه تسوريخه تسايتونغ” (22 حزيران) علقت على البرنامج الانتخابي المشترك للتكتل المسيحي الحاكم، وكتبت أن “الحفاظ على السلطة هو الهدف الأسمى، حين يتعلق الأمر بالبقاء كأقوى قوة سياسية، فالتكتل المسيحي كان دائمًا قادراً على إظهار براغماتية مذهلة.. و”البرنامج الانتخابي محافظ في أجزاء منه وصديق لمناخ الأعمال وبصبغة المحافظة على البيئة.. لم يكن لديهم أي خيار آخر، فالاستمرار تماماً كما كان عليه الأمر ليس بديلاً، بعد ستة عشر عامًا من حكم ميركل، لكن، دون خطوة كهذه فالتكتل لن يستطيع أن يبيع للناخبين بمصداقية، الخروج عن سياسة المستشارة”.

وهذه قائمة الأحزاب الكبرى المتنافسة في التشريعيات الألمانية وهي أحزاب ممثلة في البرلمان (بوندستاغ) أو في البرلمانات الولائية:

التكتل المسيحي، ويضم الحزبان الديموقراطي المسيحي (CDU)، الذي تنتمي له ميركل، والاجتماعي المسيحي (CSU)، الحزب الشقيق والمهيمن في ولاية بافاريا.

والحزبان منخرطان في فريق موحد في البرلمان (بوندستاغ) كتكتل مسيحي، والحزب الديموقراطي المسيحي عكس شقيقه الأصغر حاضر في كل الولايات الألمانية باستثناء بافاريا.

حزب الخضر(die Grünen / Bündnis 90)، وهو حزب يعني بشكل أساسي بالبيئة، تأسس عام 1980، وهذا الحزب أمام فرصة تاريخية ليصبح لأول مرة ثاني قوة سياسية في البلاد في انتخابات 2021، ولما لا، نظرياً على الأقل، أن يعين في صفوفه مستشار(ة) لخلافة ميركل.

الحزب الديمقراطي الاشتراكي (SPD)، وهو حزب عتيد، له تجربة حكومية كبيرة، وسبق له أن قاد الحكومة في عهد المستشار الاشتراكي السابق غيرهارد شرودر، وهو حليف في الائتلاف الحكومي الذي تقوده ميركل حالياً، لكن الحزب قد لن يتمكن من الاعتماد على إنجازاته الحكومية في الانتخابات المقبلة، فوفقاً لاستطلاعات الرأي، فهو يحظى بأقل من 20% من نوايا الناخبين.

الحزب الديمقراطي الحر (FDP)، وهو أحد الأحزاب العتيدة في تاريخ ألمانيا، أعطى الكثير من الشخصيات السياسية المعروفة عالمياً، من بينهم وزير الخارجية الراحل هانس ديتريش غينشر، غير أن وزن الحزب في الحياة السياسية تراجع كثيراً في السنوات الأخيرة، بل وبات يكافح في كل استحقاق انتخابي من أجل عتبة خمسة بالمائة الضرورية للتمثيلية في البرلمان.

حزب البديل من أجل ألمانيا (AFD)، وهو أحدث الأحزاب في الساحة السياسية، تأسس عام 2013، كحركة احتجاج سياسية ضد أوروبا وسياسية الهجرة، يوصف بأنه شعبوي ومعاد للإسلام.

حزب اليسار(Die Linke)، هو الوريث الشرعي للحزب الديموقراطي الاشتراكي (ألمانيا الشرقية سابقاً)، أعاد تحديد توجهه الإيديولوجي وغير اسمه أكثر من مرة بعد توحيد الألمانيتين، وحصد 8.5% في آخر انتخابات تشريعية عرفتها البلاد. (DW)[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها