تعرف على القطارات البخارية التي ما تزال قيد التشغيل في ألمانيا
في أعماق الغابات الخضراء الكثيفة للجبال الوسطى المركزية بألمانيا، توجد سكة حديدية رائعة نجت من الاضطرابات السياسية، وتوترات الحرب الباردة، والقمع، والمصاعب الاقتصادية، والتهديدات المتكررة بالإغلاق.
وتُعد سكك حديد “هارتس” الضيقة واحدة من الأماكن القليلة في العالم التي ما تزال قيد التشغيل بقطارات بخارية منتظمة على مدار العام، وهي ليست فقط للسياح، بل تُعتبر بمثابة جزء لا يتجزأ من شبكة النقل في المنطقة.
وإذا كان مصطلح “السكة الحديدية الضيقة” يستحضر أفكارًا لأسلوب تشغيل شخصية الرسوم المتحركة المشهورة “توماس ذي تانك إنغين” اللطيفة، فعليك التفكير مرةً أخرى.
ورغم من أن قضبانها قد تكون أقرب من بعضها البعض مقارنة بخطوط السكك الحديدية العادية، إلا أنها تعد بمثابة سكة حديدية “مناسبة” بطول 140 كيلومترًا، ويديرها متخصصون وفقًا لمعايير عالية، وتحمل أكثر من مليون مسافر كل عام.
وتنقل القاطرات البخارية السوداء والحمراء الوحشية، التي بُنيت في الخمسينيات من القرن الماضي، العربات التقليدية ذات الشرفات المليئة بالمتنزهين إلى حديقة هارتس الوطنية.
وتقوم الغالبية العظمى من هؤلاء الركاب برحلة مذهلة إلى أعلى قمة جبلية في المنطقة، “بروكن”، ويبلغ ارتفاعها 1،141 مترًا مع بانوراما رائعة بزاوية 360 درجة وفرصة لزيارة محطة تنصت سابقة تعود إلى الحقبة السوفيتية.
وفي الصيف، ينطلق ما يصل إلى 11 قطارًا يوميًا عبر الجبل من بلدة فيرنيغيروده الجميلة، التي تعود إلى عصور القرون الوسطى، إلى قمة جبل “بروكن”، ولكن هناك ما هو أكثر بكثير من الخط الجبلي الرائع الخاص بسكك حديد “هارتس” الضيقة.
ويجب على أي زائر للمنطقة تخصيص وقت لاستكشاف “Harzquerbahn” (خط سكة حديد Trans-Harz) و”Selketalbahn”.
وللابتعاد عن الزحام، استقل القطار البخاري اليومي، الذي يمر عبر الغابة من تقاطع الريف في مستوطنة صغيرة داخل فيرنيغيروده تعرف باسم “Drei Annen Hohne” إلى مدينة “Nordhausen”.
وتوجه إلى مدينة كفيدلينبورغ المدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي واستمتع برحلة متعرجة عبر وادي سيلكى الهادئ إلى بلدة أليكسيسباد أو بلدة “Harzgerode”.
وبينما أن الاتجاه نحو السكك الحديدية الضيقة في جميع أنحاء أوروبا يذهب نحو الانكماش والإغلاق منذ الحرب العالمية الثانية، فإن شبكة سكك حديد هارتس الضيقة جديرة بالاهتمام لأنها نمت بالفعل خلال القرن الحادي والعشرين.
وفي عام 2005، استحوذت على خط قياس بطول خمسة أميال إلى كفيدلينبورغ، والذي تم إغلاقه من قبل المشغل الوطني “DBAG”.
وتم استئناف الخدمات العامة في يونيو 2006، مع وجود قطارين بخاريين على الأقل يوميًا يتصلان بشبكة السكك الحديدية الوطنية.
واليوم، تعبر قطارات سكك حديد هارتس الضيقة أكثر من 500 ألف كيلومتر سنويًا.
ويقول توني ستريتر، خبير سكك حديد هارتس الضيقة والمحرر السابق لأكبر مجلة مخصصة للقطارات البخارية في العالم، “Steam Railway”، إن “الإبقاء عليها يعد ميزة تاريخية مذهلة”.
ويضيف ستريتر: “إذا تمكنت ألمانيا الشرقية من النجاة لفترة أطول، لكانت قاطرات الديزل قد حلت محل البخارية، وبالمثل، في بلد غربي، ربما تم إغلاق خط السكة الحديد قبل سنوات، تمامًا كما حدث على الجانب الآخر من الحدود في الواقع”.
وتم اقتراح خط السكة الحديد المؤدي إلى قمة بروكن لأول مرة في عام 1869، وكان موضوع احتجاجات بيئية مبكرة، إذ كان النقاد يشعرون بالقلق من أن تشجيع الزوار على صعود الجبل من شأنه أن يدمر الموائل.
ورغم من ذلك، إلا أن خط السكة الحديدية افتُتح بتاريخ 27 آذار عام 1899، وسرعان ما أصبح من المعالم السياحية الرئيسية.
ويقف جبل “بروكين” عالياً فوق المناظر الطبيعية المحيطة، ويتأثر بالطقس القاسي من جميع الجهات، ويتميز بمناخ أقرب إلى جبل يبلغ ضعف ارتفاعه، ويشهد تقليديًا ثلوجًا على روافده العليا بين شهري أيلول وأيار من كل عام، ولهذا، أصبح مصدر جذب لعشاق الرياضات الشتوية بمجرد أن أتاحت السكة الحديدية الوصول السريع والمباشر إلى الجبل.
وقد ضمنت هيمنة الجبل على المناظر الطبيعية المحيطة دورًا مهمًا له في الأساطير والخرافات على مدى قرون عديدة، حتى أن يوهان فولفغانغ فون غوته، أحد أشهر الأدباء الألمان، قدمه في مسرحيته “فاوست” عام 1808، حيث يتجمع السحرة على الجبل للاحتفال بليلة “والبورغيس”.
ويُقال إن التكوينات الصخرية المعروفة باسم “منبر الشيطان” و”مذبح السحرة” ألهمت عمل غوته، ولكن حتى الآن فإن شبح بروكين، وهو تأثير غريب ناجم عن الظلال الملقاة على الضباب، يعد ظاهرة شائعة في هذا الجبل الضبابي بشكل غير عادي.
ورغم من احتمال استمرار الضباب وما يصل إلى 120 يومًا في السنة من الثلوج، والتي تنجرف أحيانًا إلى أعمق من ارتفاع قطارات “Harz Narrow Gauge Railways”، يستمر الزوار في التدفق إلى القمة.
وفي الجزء العلوي، يتواجد فندق، ومطاعم، ومتحف، وحديقة نباتية، بالإضافة إلى العديد من مسارات المشي لمسافات طويلة، أما موقع القمة المكشوفة والمركزية، فقد جعلها خيارًا واضحًا لمحطة الطقس وأول برج إرسال تلفزيوني في العالم، الذي اكتمل في عام 1936 في الوقت المناسب لأول بث تلفزيوني مباشر لدورة الألعاب الأولمبية (التي أقيمت في برلين في ذلك الصيف).
ورغم من أن الجبل كان مفتوحًا جزئيًا للسياح بين عامي 1948 و1959، إلا أنه اعتبارًا من آب عام 1961، تم إعلان الموقع بمنطقة حظر عسكري من قبل حكومة ألمانيا الشرقية، وتم إغلاق هضبة القمة خلف جدار خرساني.
وأُبقي على خط السكة الحديدية كطريق إمداد للقوات وعملاء المخابرات، ولكنه لم يشهد حركة سياحية مرة أخرى حتى عام 1990.
وبُنيت منشآت عسكرية واسعة النطاق على القمة وحولها، بما في ذلك محطتي استماع، تحملان الاسم الرمزي “Yenisei” و “Urian”، تديرهما المخابرات العسكرية السوفيتية وأمن دولة ألمانيا الشرقية.
وأطلت المرافق على مساحة كبيرة من ألمانيا الغربية، وتمكنت من التقاط الكثير من حركة الاتصالات اللاسلكية في أوروبا الغربية، ولعبت دورًا رئيسيًا في أنشطة التجسس وجمع المعلومات الاستخبارية خلال الحرب الباردة.
وعلى الجانب الغربي، تراقب القوات البريطانية وأجهزة المخابرات جيرانها عن كثب، فضلاً عن الاستفادة من فرص التزلج الممتازة خلال فصل الشتاء.
وبين عامي 1949 و1990، كانت الحدود الداخلية الفاصلة بين جمهورية ألمانيا الاتحادية وجمهورية ألمانيا الديمقراطية الاشتراكية، أي جبال “هارتس”، على خط المواجهة في الحرب الباردة.
وبالقرب من قرية “سورغ”، التي تُترجم إلى كلمة “قلق”، يمتد خط سكة حديد “Harzquerbahn” على مرمى البصر من الحدود القديمة.
وحتى بعد 30 عامًا من إعادة توحيد ألمانيا، فإن الفجوة التي تختفي ببطء في الغابة وبرج المراقبة المهجور يقدمان تذكيرًا صارخًا بمدى حساسية هذه الحدود حتى عام 1989.
وتُعد قرية “Elend” القريبة “والتي تترجم إلى البؤس”، والتي تخدمها أيضًا سكك حديد هارتس الضيقة، بمثابة تذكير بالمصاعب التاريخية التي عانى منها السكان المحليون.
وتم جلب البؤس أيضًا إلى المنطقة من قبل النظام النازي 1933-45، الذي بنى معسكر اعتقال “ميتيلباو-دورا” سيئ السمعة للعمل القسري بالقرب من مدينة نوردهاوزن في عام 1943، حيث توفي حوالي الثلث من أصل 60 ألف نزيل، أرسلوا إلى المعسكر لتصنيع صواريخ “V-1 و V-2” الطائرة قبل نهاية الحرب العالمية الثانية في ظروف مروعة، وتم تحرير السجناء الناجين من قبل القوات الأمريكية في نيسان من عام 1945.
وعلى الجانب الشرقي من الحدود بعد عام 1961، عانى السكان المحليون من قيود صارمة تهدف إلى منعهم من الفرار إلى ألمانيا الغربية.
وكانت التصاريح الخاصة مطلوبة (وغالبًا ما يتم رفضها) للزيارة من مناطق أخرى من البلاد، حتى لرؤية أفراد الأسرة.
ولمدة 45 عامًا بعد الحرب العالمية الثانية، حاربت سكك حديد “هارتس” الضيقة من أحل الاستمرار.
وساهمت القيود السياسية ونقص الاستثمار بعدم تحديث السكك الحديدية، ولأن السيارات الخاصة كانت نادرة نسبيًا في ألمانيا الشرقية، ظلت القطارات القديمة مهمة للسفر والشحن المحلي.
وفي أواخر الثمانينيات، قام مشغل السكك الحديدية في الولاية الشرقية، “دويتشه ريتشس بان”، بتحركات لاستبدال القاطرات البخارية بمحركات ديزل قياسية، بُنيت لتعمل على المسارات الأضيق، ولكن بمجرد ظهورها، غيّر سقوط جدار برلين العالم ودور السكة الحديدية إلى الأبد.
وفي وقت مبكر من كانون الأول 1989، استعاد الجمهور قمة بروكن خلال مسيرة، وذلك رغم من البوابات والجدران التي بناها الجيش الروسي لمنع الوصول إلى القمة.
ومنذ عام 1990، تم تدمير المنشآت العسكرية تدريجياً، مع مغادرة آخر جندي روسي لقمة بروكن في آذار من عام 1994، وخلال هذا الوقت، لعبت السكك الحديدية دورها في إزالة المعدات والمواد الزائدة عن الحاجة والجنود من الجبل.
ومع ذلك، فإن استمرار تشغيل السكة الحديدية لم يكن مؤكدًا حتى انضم عشاق السكك الحديدية إلى السياسيين لمنحها فرصة أخرى.
وبدعم إقليمي، تم تجديد المسار، وعادت القطارات السياحية بفخر إلى القمة في أيلول من عام 1991. (CNN)[ads3]