من يختار حكام العالم؟
من أهم الدروس التي تعلمناها بعد ما يسمى بـ«الربيع العربي» أن تغيير الأنظمة والحكام لم يعد شأناً داخلياً مطلقاً، فمهما حاولت الشعوب وضحّت بملايين الشهداء واللاجئين وخسرت أرزاقها وأوطانها، فلن تستطيع تغيير أي نظام أو حاكم إذا كانت رغبة ضباع العالم عكس رغبتها. بعبارة أخرى، فإن لعبة التغيير تبقى بأيدي سادة العالم المتحكمين بمصير البشرية جمعاء. ولو توافقت أحياناً رغبة الشعوب مع رغبة الضباع الكبار في تغيير هذا الحاكم أو النظام أو ذاك، فليس لأن إرادة الشعوب قد انتصرت، بل لأن للضباع أهدافاً أخرى تخص مصالحها أولاً وأخيراً وليس مصالح الشعوب التي تنشد التغيير.
دلوني مثلاً على أي ثورة عربية غيرت أي شيء. حتى ثورة تونس التي ظن البعض أنها نجحت عادت إلى المربع الأول بعد انقلاب الوكيل المحلي قيس سعيد ومشغليه وكفلائه في الداخل والخارج على الثورة. وقد لاحظت الشعوب بعد أن ذاب الثلج وبان المرج أن الثورات التي ظنت أنها يمكن أن تحسن لها أوضاعها وتنهي عهد الظلم والطغيان لم تكن في صالحها أبداً. بل استخدمها سادة العالم كمنصات لتحقيق مصالح جديدة لم تكن متاحة إلا بعد تمرير مشروع الثورات، وخاصة إعادة رسم الخرائط والسيطرة على مزيد من الثروات كما في اليمن وليبيا وسوريا والعراق والسودان والجزائر وتونس ولبنان.
عملياً لم تستطع الثورات إسقاط أي حاكم أو نظام في كل البلدان التي ثارت، ففي مصر صار النظام القديم أقوى بكثير.
وفي ليبيا لولا قوات الناتو لما وقع القذافي أصلاً في أيدي الليبيين.
وفي تونس لولا أوامر المشغلين لما هرب بن علي، ولما سقط علي عبد الله صالح في اليمن ولما اضطر مبارك لترك السلطة. ولو أن الأوضاع بعد الثورات تطورت بشكل إيجابي ولم تزدد الأوضاع سوءاً في كل تلك البلدان لقلنا إن الشعوب هي التي أسقطت الطغاة، لكن عودة الأنظمة أقوى بوجوه جديدة قديمة يثبت أن كل ما حصل كان بإرادة خارجية، ولم تكن الشعوب سوى كومبارس في هذه اللعبة الكبرى التي تذكرنا تماماً بما يسمى بالثورة العربية الكبرى عام 1916 التي ظنها البعض لتحرير العرب من الاستعمار العثماني، فاتضح فوراً أنها كانت لعبة بين المستعمرين الآخرين، مستعمر يرحل وآخر يستلم ويعيد ترتيب الدول وأنظمتها حسب مصالحه الخاصة، وليس أبداً حسب مصالح الشعوب المسكينة المغفلة، مع التأكيد طبعاً أن الشعوب أرادتها ثورات حقيقية، لكن شياطين العالم حولوها وبالاً عليها وحرفوها عن مسارها بما يخدم مخططاتهم.
من السخف طبعاً في عصر العولمة وسقوط الحدود واختفاء السيادة بمفهومها الوستفيلي أن تكون مهمة اختيار الأنظمة متروكة للشعوب، فالشركات الكبرى العابرة للحدود أصبحت تدير العالم من بابه إلى محرابه حسب المصالح، وأي حاكم أو نظام لا يتوافق مع «النظام الدولي» لا يمكن أن يصل إلى الحكم في أي بلد حتى لو اختاره الشعب، ومن الممكن بسهولة سحقه أو الانقلاب عليه إذا خالف المطلوب منه لاحقاً، وهو تقليد أمريكي عريق طبعاً. كم انقلاباً دبرت وكالة الاستخبارات الأمريكية ضد الحكام والأنظمة غير المرغوب فيها؟ لا شك أنكم تذكرون محمد مصدق في إيران، وغيره كثيرون. وحتى في أوروبا الديمقراطية المفترض أنها جزء من النظام الذي يتحكم بالعالم، لا يمكن السماح لأي زعيم بالوصول إلى السلطة إذا لم يكن مناسباً للضباع الكبار. هل تذكرون ما حصل للزعيم النمساوي يورغ هايدر الذي فاز بالانتخابات الديمقراطية ثم أسقطوه لأن أمريكا وإسرائيل كانتا ضده. واضطر النظام النمساوي أن يضحي بهايدر في سابقة تاريخية، ثم اختفى الرجل في حادث سيارة بعد فترة.
فإذا كان الوضع في أوروبا هكذا، فكيف بالعالم الثالث؟ باختصار لا يمكن لزعيم أن يصل للسلطة في أي مكان دون أن يمر عبر الغربال الأمريكي. وبالتالي كل المرشحين للرئاسة حتى في الغرب يمرون عبر الغربال أولاً ثم يُطلب من الشعب انتخابهم فتبدو اللعبة ديمقراطية.
قد يقول لك البعض: وماذا عن الأنظمة التي تتحدى الغرب ليل نهار كإيران وميليشياتها أو ما يسمى بحلف المقاومة الذي يشتم أمريكا بغزارة؟ من يصدق أن هذا الحلف يواجه أمريكا في حاجة لأن يفحص عقله في أقرب مصحة للأمراض النفسية، فهو يلبي كل المطالب والأوامر والمصالح الأمريكية، ولا ننسى أن الخميني كان ينشط في فرنسا تحت نظر وسمع الاستخبارات الأمريكية والأوروبية، وعاد إلى إيران على متن طائرة فرنسية ليفعل كل ما فعله لاحقاً خدمة للمصلحة الأمريكية والإسرائيلية. وسئُل مسؤول أمريكي ذات يوم عن موقف بلاده من النظام السوري الذي يلعن ويتحدى أمريكا عمال على بطال، فأجاب المسؤول: «نحن لا يهمنا ما يقوله النظام السوري، بل يهمنا ما يفعله لنا، فأحياناً نطلب منه أن ينفذ لنا أمراً ما بنسبة عشرين بالمائة، لكننا نتفاجأ في اليوم التالي أنه نفذه بنسبة مائة بالمائة». ولا ننسى أن العالم لم يعترف ببشار الأسد رئيساً بعد موت والده إلا بعد أن اختلت به وزيرة الخارجية الأمريكية وقتها مادلين أولبرايت ببشار في لقاء سري بدمشق وأعطته التعليمات، وبعد أن بصم لها بالعشرة، باركت تعيينه، ثم توالت الاعترافات الدولية بطاغية الشام الجديد. ورغم أنه قتل وشرد الملايين ودمر سوريا، إلا أن ضباع العالم لم يسمحوا للسوريين بإسقاطه، ولولا الغطاء الأمريكي والإسرائيلي لما بقي ساعة واحدة في الحكم. قارنوا كيف أسقطت أمريكا زعيماً مسالماً منتخباً شعبياً في النمسا لأنه لا يخدم مصالحها، وكيف حمت مجرماً مسؤولاً عن قتل وتعذيب وتهجير الملايين لأنه يخدم مصالحها. ويروي البعض نقلاً عن وزير الدفاع الأمريكي الراحل رامسفيلد أنه قال لقائد إحدى الميليشيات الإيرانية المعادية لأمريكا بالشعارات النارية فقط: «نفذوا كل ما نطلبه منكم ثم زمروا (من زميرة) كما تشاؤون».
فيصل القاسم – القدس العربي[ads3]