دويتشه فيله : الانتخابات الألمانية .. هل تطلق الحكومة المقبلة ثورة التحول الرقمي ؟
أكدت أزمة جائحة كورونا على أهمية التكنولوجيا الحديثة في شتى مجالات الحياة، وأن المستقبل يعتمد على التكنولوجيا، وهو ما يدل على أن التنافسية ستكون ركيزتها تكنولوجيا الاتصالات، فخلال جائحة كورونا، اضطرت السلطات الصحية المحلية في ألمانيا إلى إرسال التقارير حول الإصابات الجديدة بفيروس كورونا عن طريق الفاكس، وقد أثارت هذه الواقعة الكثير من الجدل والدهشة في ألمانيا، إلا أنها كشفت أيضاً عن أن ألمانيا، رابع أكبر اقتصاد في العالم، قد تخلفت كثيراً في سباق الرقمنة والتكنولوجيا المتقدمة الخاصة بالاتصالات فائقة السرعة.
وخلال جائحة كورونا أيضاً، تعرضت شبكة الاتصالات في ألمانيا إلى ضغوط كبيرة جراء العمل من المنزل والتعليم عن بعد والحصول على خدمات عامة عن طريق الإنترنت، بما في ذلك إجراء مقابلات افتراضية عبر الفيديو مع الأطباء، بل إن الأمر وصل إلى أن بعض الألمان لم يتمكنوا من تجديد بطاقات الهوية الخاصة بهم، لأن السلطات المحلية لم تكن مستعدة لإجراء مقابلات عبر الإنترنت، فيما واجه بعض التلاميذ مشاكل أثناء التعليم عن بعد.
ويؤكد هذا الأمر على أهمية خدمات الاتصال عبر الألياف البصرية، فيما بات نقص هذه الخدمات مشكلة كبيرة وعائقاً أمام من يعملون من المنزل أو الشركات الناشئة أو حتى شركات التكنولوجيا الكبيرة أو الذين يعيشون خارج المدن الكبرى.
وقد فرضت قضية الرقمنة في ألمانيا نفسها على المشهد الانتخابي مع إجراء الانتخابات العامة في السادس والعشرين من أيلول الجاري، إذ سيدلي الناخبون الألمان بأصواتهم لتحديد المسار الذي ستسلكه البلاد مستقبلا.
وفيما يتعلق بالرقمنة، تتفق جميع الأحزاب على ضرورة تسريع وتحسين التحول نحو الرقمنة بشكل كبير، لكن تتباين المواقف حيال كيفية تنفيذ هذا التحول خاصة ما يتعلق بالجدول الزمني والخطط والأموال التي يجب استثمارها في تعزيز هذا التحول، وهذا يطرح بدوره تساؤلات حيال أفكار ومقترحات هذه الأحزاب من أجل تعزيز تكنولوجيا الثورة الصناعية الرابعة المتمثلة في الرقمنة والتكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي.
وخلال ماراثون الانتخابات، كان أبرز هتاف في معركة الرقمنة نحو بناء شبكات الجيل الخامس وتوصيل أحدث أنواع كابلات الألياف الضوئية لتوفير خدمات الإنترنت فائق السرعة في جميع أرجاء البلاد وضمان حصول كل أسرة أو شركة على هذه الخدمة.
وبدون ذلك، لا يمكن الحديث عن المستقبل الرقمي، لكن الأمر يحتاج إلى إنفاق المليارات في استثمارات سنوية فقط من أجل اللحاق بالركب التي تخلفت عنه ألمانيا لسنوات، وأيضاً إنفاق المزيد من المليارات للوصول إلى أعلى المعايير في هذا الصدد، وقد أولت الحكومة الحالية، الذي تضم حزب المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، الحزب المسيحي الديمقراطي وشقيقه البافاري الحزب المسيحي الاجتماعي والحزب الاشتراكي، اهتمامًًا كبيرا لهذا التوجه.
أما بالنسبة للمعارضة، فيرى الحزب الديمقراطي الحر “الليبرالي” وحزب الخضر أن هذا الأمر قضية مهمة، لا سيما وأن هناك احتمال كبير جداً أن أحد هذين الحزبين على الأقل جزءا من الائتلاف الحكومي المقبل.
وبعيداً عن صخب الانتخابات، فقد تم تمرير قانون في نيسان الماضي يكفل لكل شخص الحق القانوني في الحصول على الإنترنت فائق السرعة، ورغم أن الغموض ما يزال يكتنف تطبيق هذا القانون على أرض الواقع، لكن يأمل كثيرون في أن يساعد هذا القانون على تقوية الاتصالات بشكل أفضل وتعزيز البحث والتطوير أكثر، خاصةً في مجالات الذكاء الاصطناعي والقيادة الذاتية والتكنولوجيا الخاصة بتطوير العملات المشفرة والافتراضية أو ما يُعرف بـ (blockchain) أو “سلسلة الكتل”.
ويلقي الكثير من اللوم على التقدم البطيء في مجال الرقمنة على النظام السياسي اللامركزي في ألمانيا، إذ يُفترض في كثير من الحالات ضرورة الرجوع إلى سلطات وبرلمانات الولايات التي لها القول الفصل فيما يتعلق بالقرارات الخاصة بالقطاع العام والمدارس، فيما تستغرق عملية الحصول على الموافقة من كافة الولايات الكثير من الوقت وأصبح الأمر مملا.
ويجعل هذا الأمر القيام بالتخطيط على مستوى الدولة (الاتحادي) أمراً صعباً، بل ويدخل الحكومة الاتحادية في متاهات الروتين في كل الولايات التي يبلغ عددها 16 ولاية.
وللتغلب على هذه المعضلة، تعهد الحزب الليبرالي والحزب المسيحي الديمقراطي بإنشاء وزارة جديدة يناط بها تنفيذ التحول الرقمي في البلاد، ويرى الحزب المسيحي الديمقراطي أن إنشاء مثل هذه الوزارة سيكون ضرورياً للتنسيق والتخطيط المركزي لتسريع هذا التحول الرقمي.
ورغم أن هذا الحل قد يكون الأمثل لمواجهة العراقيل الروتينية، إلا أن إنشاء وزارة جديدة من العدم ليس بالأمر السهل، إذ يمكن أن تتعارض مهامها مع ما تقوم هيئات حكومية ألمانية أخرى، مثل المجلس الرقمي المصغر الذي تم إنشاؤه عام 2018، والذي يعمل في إطار المستشارية ويتألف من عشرة خبراء متطوعين يقدمون المشورة للحكومة ويدفعون المباحثات حيال التحول الرقمي صوب المسار الصحيح.
وقد يتصور البعض أن التحول الرقمي سيصب في صالح الشركات والمؤسسات فقط أو أن القطاع الخاص وحده من سيربح من التركيز الكبير على تكنولوجيا الثورة الصناعية الرابعة، بيد أن الأحزاب تؤكد على أن قطاع التعليم سيستفيد من هذا التحول أيضاً بشكل كبير، ومن أجل تحقيق هذا، يتعين ضمان حصول كافة المدارس على أحدث أنواع التكنولوجيا الحديثة، كما يجب ضمان اتصال الطلاب بمنصات التعليم عبر الإنترنت وحصولهم على أحدث الأجهزة اللوحية أو الحواسيب المحمولة “لاب توب”.
وقد يكون هدف التخلص من الوثائق الورقية والملفات في الهيئات الحكومية لا يلقى اهتماماً كبيراً، مقارنةً بالتعليم وإنشاء وزارة جديدة للرقمنة، لكنه يهم المواطن الذي يعاني كثيراً في ألمانيا بسبب البيروقراطية، وحول ذلك، تتفق كافة الأحزاب على ضرورة تحديث العمل الحكومي ووضعه في ركب القرن الحادي والعشرين.
ووفقا ًلمؤشر الاقتصاد والمجتمع الرقمي داخل الاتحاد الأوروبي، فإن ألمانيا تقترب من ملامسة قاع القائمة الخاصة بتصنيف الخدمات المقدمة للمواطنين عبر الإنترنت بين دول التكتل الأوروبي، وفي هذا التصنيف، احتلت فقط التشيك وبلغاريا والمجر وكرواتيا وسلوفاكيا واليونان ورومانيا المرتبة الأسوأ.
ولإحداث طفرة كبيرة في هذا المجال في ألمانيا، يتطلب الأمر تغييرات واستثمارات كبيرة، وفي الوقت نفسه يتعين على الأحزاب جعل بطاقات الهوية الرقمية النبراس، إذ سيسهل استخدامها التعامل مع السلطات من خلال إتاحة الخدمات عبر الإنترنت، مثل تغيير العنوان أو تسجيل المواليد أو تجديد جواز السفر، وإذا تم تطبيق هذا الأمر في كافة أنحاء البلاد، فسوف تطوى صفحة الانتظار في طوابير من أجل ملء النماذج الحكومية والتوقيع عليها، لكن عندما يتطرق الحديث إلى التحول إلى “بطاقات الهوية الرقمية”، يجب أن يتم بحث مسألة حماية البيانات والخصوصية أيضاً، ففي حالة استخدام بطاقات الهوية الرقمية بشكل عام، فإن هذا سيعني أن الكثير من البيانات الشخصية والمتعلقة بالضمان الاجتماعي والضرائب ستكون متداولة بشكل كبير، وهو الأمر الذي يبغضه الكثير من الألمان، خوفاً من تعرض هذه البيانات للسرقة أو إساءة استخدامها أو ربما ما هو أسوأ، فعلى سبيل المثال، إذ ما تعرضت شركات أو السلطات المحلية أو حتى الأفراد لهجمات الكترونية بواسطة “برامج فدية”، سيعني هذا أن الجميع يتعين عليه القلق، وإزاء ذلك، دعت الأحزاب الرئيسية في البلاد إلى تعزيز حماية البيانات بشكل كبير وتقوية أمن تكنولوجيا المعلومات من خلال المثال تطوير المكتب الاتحادي لأمن المعلومات وتعزيز دوره مثلا.
وفي هذا السياق، دعت الأحزاب إلى إنشاء شركات أوروبية رائدة في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي تكون أقل اعتماداً على الولايات المتحدة أو الصين.
وخلاصة القول، قد تحظى قضية تسريع التحول الرقمي بطريقة آمنة ومنظمة على موافقة الجميع في ألمانيا، ما يحتم على الفائز بالانتخابات المقبلة سد هذه الفجوة، لأن قطار الرقمنة يسير بسرعة ولا ينتظر طويلا.
تيموثي روكس – دويتشه فيله[ads3]