BBC : ما قصة المدرسة التي أسهمت في إنشاء مدينة للمكفوفين و ضعاف البصر في ألمانيا ؟

تفتخر مدينة ماربورغ الألمانية بأنها “مدينة للمكفوفين” – مدينة صممت لجعل حياة المكفوفين وضعاف البصر أسهل ما يمكن – لكنها تدين بهذه السمعة وبهيكلها الاجتماعي الشامل لمدرسة مبتكرة بشكل خاص.

وبدأ ليون بورتز يفقد بصره تدريجيًا وهو في الثامنة من عمره بسبب مرض خلقي عندما حصل على أول جهاز كمبيوتر له، وعندما بلغ التاسة من عمره، كان قد تعلم كيفية تسريع الصوت الناتج عن الآلة والذي يقرأ مواقع الإنترنت والنصوص الإلكترونية الأخرى، وهو ما يسمح له بفهم المعلومات بشكل أسرع.

والآن، يستمع بورتز إلى النصوص أسرع بخمسة أضعاف من السرعة العادية، وهو الأمر الذي لا يمكن أن تستوعبه أذن غير مدربة على ذلك، لكنه لم يحب العلم بدرجة كبيرة، إلا عندما انتقل من مسقط رأسه في وسط ألمانيا إلى مدينة ماربورغ القريبة، وهي مدينة جامعية مرموقة تعود للعصور الوسطى، لكي يلتحق بمدرسة متخصصة للمكفوفين، واتضح أن هذه الخطوة قد نقلته إلى مركز للابتكار الشامل.

وتطلق ماربورغ على نفسها بكل بفخر اسم “مدينة المكفوفين وضعاف البصر”، بسبب تاريخها الطويل كمركز لسهولة الوصول إلى أي مكان.

وشهدت المدينة تأسيس معهد تعليمي رائد للمكفوفين خلال الحرب العالمية الأولى، لتوفير الفرص للشباب الذين أصيبوا بالعمى خلال الحرب.

ونجح هذا المعهد في التوصل إلى اختراعات لا حصر لها للمكفوفين منذ ذلك الحين، كما ساهم في إعادة تشكيل المدينة من حوله بشكل كبير، وحولها إلى مكان “يكون فيه كل شيء مثالي للمكفوفين”، على حد قول بورتز.

وقد تكون بعض الابتكارات التي تساعد المكفوفين في ماربورغ موجودة أيضًا في أماكن أخرى، لكن الطريقة التي تسير بها الأمور في هذه المدينة فريدة من نوعها، كما يقول بورتز وغيره من المكفوفين الذين يعيشون في هذه المدينة.

ويمكن سماع أصوات عصي التوجيه في كل مكان في ماربورغ، حيث يتنقل المكفوفون في المدينة بمساعدة إشارات المرور التي تصدر أصواتاً للتبنية، والأرصفة والأرضيات التي تحتوي على مطبات تعمل كإشارات ملموسة للمخاطر أو الحواجز، كما أن النماذج البرونزية المصغرة والتفصيلية للمعالم الرئيسية مثل قلعة ماربورغ وساحة البلدة تسمح للزوار المكفوفين بالشعور بكل المعالم بشكل كامل.

وهناك ميزات مريحة أخرى نتيجة لشكل المدينة الطبيعي، فماربورغ مدينة صغيرة ومنحدرة، وهو ما يجعل من السهل توجيه نفسك ببساطة من خلال ملاحظة ما إذا كنت تريد الصعود أو الهبوط.

وعلاوة على ذلك، هناك شبكة من المرافق الترفيهية التي يمكن الوصول إليها بسهولة في جميع أنحاء المدينة، مثل مدرسة ركوب الخيل للمكفوفين، والتجديف للمكفوفين، وكرة القدم، ونوادي التسلق والتزلج.

وتضم جامعة المدينة أعلى نسبة في ألمانيا من الطلاب المكفوفين، وأكبر مجموعة من الشهادات التي حصل عليها المكفوفون.

ولقد قاد المعهد التعليمي للمكفوفين وطلابه العديد من هذه الابتكارات، فطوروا أدوات مساعدة يومية، مثل عصا قابلة للطي، كما تعاونوا مع الجامعة لتحسين إمكانية التحرك عبر الأقسام المختلفة.

ويعد القانون وعلم النفس من بين أكثر المجالات التي يقبل الطلاب على دراستها، نظراً لأنه يمكن دراستها بسهولة باستخدام أدوات مساعدة مثل برامج قراءة الشاشة.

والآن، يقتحم معلمو وتلاميذ المعهد مجالاً آخر، وهو العلوم الطبيعية، التي دائمًا ما كان المكفوفون يجدون صعوبة في دراستها.

وأصبح بورتز أول طالب كفيف يدرس الكيمياء الحيوية هناك، وبحسب تقديره الخاص، فإنه واحد من أقل من خمسة طلاب مكفوفين يدرسون الكيمياء في ألمانيا بالكامل.

ويقول بورتز، الذي يدرس الكيمياء الحيوية وعلوم الكمبيوتر في دوسلدورف: “لا أشعر أنني رائد في هذا المجال، لكنني أصبحت كذلك بالفعل حسب ما أعتقد”.

وما تزال الكيمياء مجالاً مغلقاً نسبيًا أمام المكفوفين، بسبب مخاطر العمل في المختبرات، والاعتماد الكبير على الصور والمخططات والرسوم البيانية، لكن توبياس ماهنك، مدرس الكيمياء الذي درس لبورتز في مدرسة “كارل ستريل” التابعة للمعهد التعليمي للمكفوفين في ماربورغ، يرى أنه لا يوجد سبب يجعل الكيمياء مجالاً صعباً على المكفوفين إلى هذا الحد.

ويقول: “لا يمكن لأي إنسان رؤية الجزيئات، ولا يمكن لأي إنسان رؤية الذرات، ومع ذلك فإن تعليم الكيمياء يعتمد على الصور كثيرا، فلماذا يحدث هذا؟.. لا ينبغي أن تكون هناك أية معوقات أمام المكفوفين، نظرًا لأن الأشخاص المبصرين لا يمكنهم رؤية كل هذا أيضا”.

وبدأ ماهنك، وهو مُبصر، العمل في هذه المدرسة في عام 2013، وفي ذلك الوقت، لم تكن المدرسة تقدم دروساً متقدمةً في الكيمياء، لكن منذ ذلك الحين، طور هو وزملاؤه مجموعةً من الأدوات والأساليب متعددة الحواس لتدريس العلوم الطبيعية، بدعم من كلية الكيمياء في جامعة “فيليبس” في ماربورغ، وبالاعتماد على تمويل من مؤسسة “راينهارد فرانك” الخيرية، وكتب ماهنك رسالة ماجستير حول تطوير مواد شاملة لتدريس الكيمياء، ونشر بعض النتائج التي توصل إليها.

وعلى عكس نماذج العلوم التقليدية المستخدمة في الفصول الدراسية، صممت نماذج المعهد التعليمي للمكفوفين للكشف عن عمليات كاملة وعلاقات واسعة النطاق.

ويقول ماهنك: “معظم التجارب العلمية تذهب إلى ما هو أبعد من مجرد الرؤية.. يمكنك لمس الأشياء، فقد يكون الشيء دافئًا أو باردًا، ويمكنك شم وسماع الأشياء، وفي تجارب الطعام يمكن الاعتماد على حاسة التذوق”.

ويضيف: “في التدريس المنتظم، نركز على الرؤية، لأنه يعني أنه يمكنني عرض تجربة في غضون خمس ثوان، ويمكن أن يراها 30 طالبًا.. إنها طريقة سريعة وفعالة للمعلم، ولكن ليس للطلاب”.

وفي عام 2017، قدمت المدرسة أول دورة متقدمة في الكيمياء، وفي عام 2019، كان الطلب كبيراً لدرجة أنها فتحت فصلين، وصمم المختبر ليناسب احتياجات التلاميذ المكفوفين، وطور ماهنك وزميلته، تانا سكابات، طريقة لتعليم التلاميذ الأشياء المتعلقة بالحرارة والنار، باستخدام ورق حساس للحرارة للسماح لهم باستكشاف خصائص الشمعة المشتعلة.

وهناك أيضاً جهاز استشعار خاص، جرى ابتكاره في المدرسة في التسعينيات من القرن الماضي، يصدر صوتًا عاليًا أو منخفضًا عندما يضيء السائل أو ينطفئ أثناء تفاعل كيميائي.

وفي السنوات الأخيرة، بدأت مدرسة كارل ستريل قبول عدد محدود من الأطفال المبصرين، الذين يتعلمون جنبًا إلى جنب مع زملائهم المكفوفين باستخدام مواد متعددة الحواس.

وأظهرت الأبحاث أن الأطفال والبالغين يتعلمون بشكل أفضل عندما يتمكنون من استيعاب المعلومات الجديدة بحواس متعددة، وليس فقط بالعين المجردة. (BBC)[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها