دويتشه فيله : نقص العمال المهرة و تحدي التغير الدراماتيكي في سوق العمل الألماني

هناك شبه إجماع على أن تدني مستوى قطاع الرقمنة والبنية التحتية للإنترنت في ألمانيا، خاصةً في الأرياف، مقارنةً ببلدان صناعية كالسويد وكوريا الجنوبية، من أبرز المشاكل التي تواجه الاقتصاد الألماني والحكومة الألمانية القادمة، غير أن التحدي الأكبر من ذلك لهذه الحكومة سيكون في مواجهة نقص العمالة المؤهلة والمدربة في هذه القطاعات وقطاعات أخرى، كالخدمات الصحية والإدارة والتعليم والحرف الصناعية.

وواجهت المستشارة أنغيلا ميركل وحكوماتها خلال فترة حكمها الأزمات الصعبة بنجاح ورباطة جأش، غير أنها فوتت على ألمانيا فرص الريادة في قطاعات مستقبلية عديدة، والسؤال المطروح، هل تستطيع الحكومة القادمة مواجهة التحديات القائمة؟.

وتقدر الحاجة الحالية للمؤهلين في مجال المعلوماتية والخدمات الطبية بأكثر من 800 ألف شخص، رغم تبعات جائحة كورونا، وتزداد حدة المشكلة مع التغيرات التي يشهدها سوق العمل منذ سنوات، والتي يمكن وصفها بثورة في طبيعة الوظائف ومتطلباتها، ولا تتمثل هذه الثورة فقط في اتساع نطاق العمل من البيت بسرعة لم يتخيلها أحد قبل جائحة كورونا وحسب، بل وفي بدء إحلال الروبوتات محل الإنسان في الكثير من الأعمال غير المعقدة في الصناعات التحويلية والخدمات على اختلافها.

وبالمقابل، هناك أعمال ووظائف كثيرة يتعزز موقعها وتزداد متطلبات التأهيل التقني واللغوي والإداري والتنظيمي لها بشكل غير مسبوق، الأمر الذي يظهر على سبيل المثال لا الحصر في الاتصالات والبرمجيات والطاقات المتجددة والتعليم والتجارة الإلكترونية والخدمات المالية.

ومما لا شك فيه أن مثل هذه التغيرات ستؤدي، في بلد غني ومتطور صناعياً في مجال الأتمتة مثل ألمانيا، إلى اختفاء المزيد من الوظائف التي تعتمد على الأعمال البدنية وغير المعقدة بشكل متسارع، لا سيما وأن المشكلة الديمغرافية المتمثلة في تراجع معدلات الولادة وقوى العمل الشابة تزداد حدة، غير أن الطلب على الوظائف التي تحتاج إلى مؤهلات عالية تقوم على سعة الاطلاع واكتساب المعارف والإبداع سيرتفع بوتيرة أسرع، وعلى سبيل المثال، تقدر شركة “ديوليتي” للاستشارات نشوء نحو 2.1 مليون وظيفة جديدة في السوق الألمانية بحلول عام 2035 في مجالات الصحة والتعليم والتدريب والإدارة، وتذهب تقديرات إلى أن مئات آلاف الوظائف الجديدة ستنشأ أيضاً في إنتاج وصيانة وسائل النقل الكهربائية.

ويزيد من الطلب على الكفاءات العالية في ألمانيا الحاجة الماسة إلى استثمار أكثر من 50 مليار يورو لتحديث وتسريع شبكات الهاتف والإنترنت وبنية التعليم الرقمي قبل نهاية العقد الحالي.

ومن الواضح أن أية حكومة ألمانية قادمة لا خيار أمامها سوى تنفيذ هذه الاستثمارات بالسرعة القصوى، لأنها تحظى بإجماع القوى السياسية والاقتصادية المؤثرة في المجتمع.

ويزيد من ضرورة الإسراع هذه تخلف ألمانيا عن اللحاق بركب الكثير من البلدان الصناعية، بعدما كانت في موقع الريادة في الاتصالات والطاقات المتجددة أوائل الألفية الحالية.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل تقوم الحكومة القادمة بتمكين سوق العمل الألمانية من الاستجابة لتحديات النقص في الكفاءات والعمالة المتخصصة عالية التأهيل؟.

يبدو هذا النقص اليوم ماثلاً في مختلف القطاعات ولم يعد يقتصر المعلوماتية والخدمات الطبية.

وتعاني ألمانيا نقصاً في العمالة المتخصصة والكفاءات منذ أكثر من عقدين، لأسباب من أهمها ضعف أداء الحكومات الألمانية المتعاقبة في حل هذه المشكلة، وسط اختلاف وجهات نظر أحزاب التحالف الحكومي بهذا الخصوص.

ومع تزايد شكاوي الشركات ومعاناتها، اتخذت حكومة المستشار السابق غيرهارد شرودر إجراءات خجولة لاستقدام كفاءات أجنبية عالية في مجالات محدودة، في إطار ما سمي إقامة “البطاقة الزرقاء”، على غرار الـ”غرين كارد” أو إقامة “البطاقة الخضراء” الأمريكية، غير أن هذه الإجراءات وما تلاها لم تفلح في إيجاد الحلول لأسباب عديدة، من بينها من تعقيدات البيروقراطية الألمانية في الاعتراف بالشهادات الأجنبية ومنح تأشيرات الدخول وصعوبات تعلم اللغة الألمانية، ويدل على ذلك بقاء أعداد القادمين من الكفاءات الأجنبية المؤهلة من خارج دول الاتحاد الأوروبي أقل من 25 ألفاً في السنة، في وقت تصل فيه الحاجة إلى 6 أمثال هذا الرقم.

ومع دخول القانون الجديد لتشجيع هجرة العمالة المتخصصة من خارج دول الاتحاد الأوروبي إلى ألمانيا حيز التنفيذ في آذار 2020، انتعشت بعض الآمال في استقطاب المزيد من الخبرات الأجنبية للعمل في الشركات الألمانية، غير أن استمرار ضعف برامج الاندماج، إضافةً إلى جائحة كورونا، أعاقت التنفيذ، في وقت تزداد فيه الحاجة لهذه الخبرات يوماً بعد يوم.

ويخشى الكثيرون أن ألمانيا لا تبدو مستعدة للتغيرات القادمة في سوق العمل، الأمر الذي أكد عليه وزير العمل الألماني، هيربرت هيل، عندما صرح مؤخراً بأن سوق العمل الألماني سيشهد، على ضوء نقص العمالة المتخصصة، اضطرابات كبيرةً في عشرينيات القرن الجاري.

وفي الواقع، حتى لو نجحت ألمانيا في أن تكون بلداً جاذباً للكفاءات والعمالة المتخصصة، فإن قدومها سيبقى محدوداً بسبب كثرة الطلب عليها في بلدان أخرى تقدم إغراءات أكثر، مثل كندا وأستراليا ودول الخليج.

ومن هنا، تقول تقديرات الحكومة الألمانية إن تحسين شروط استقدام الكفاءات الأجنبية عالية التأهيل من خارج الاتحاد الأوروبي سيؤدي إلى مضاعفة عدد القادمين من 25 إلى 50 ألف سنوياً، ومن شأن ذلك أن يخفف من حدة النقص دون حل المشكلة بشكل جوهري، على ضوء زيادة الحاجة لهذه الكفاءات حالياً، بحسب الوكالة الاتحادية للتوظيف، فقد ذكر رئيسها، ديتليف شيل، أواخر آب الماضي أن مجمل حاجة الاقتصاد والقطاعات الخدمية الألمانية للكفاءات والعمالة المتخصصة من الاتحاد الأوروبي وخارجه تصل إلى نحو 400 ألف سنوياً، فما العمل لمواجهة هذا التحدي؟.

ويعمل في ألمانيا ملايين الأشخاص بأجور منخفضة في أعمال ووظائف لا تتطلب تأهيلاً عالياً، وتذهب التقديرات إلى أن 20% من العاملين في الشركات والمؤسسات الألمانية ينطبق عليهم ذلك، ويضاف إلى هؤلاء أن ما يزيد على 60% من المهاجرين الشباب الذين قدموا خلال السنوات العشر الماضية إما عاطلون عن العمل أو يعملون في مجالات دون مستويات تخصصاتهم وطموحهم.

وفي المجمل، يمكن الحديث هنا عن أعداد تصل إلى أكثر من 5 ملايين شخص يمكن إعادة تأهيلهم للعمل في سوق العمل الألماني خلال السنوات العشر القادمة، وهنا يبرز التحدي الأكبر للحكومة الألمانية التي لم تفلح حتى الآن في نشر التعليم الرقمي في المدارس والمعاهد ومؤسسات التدريب المهني، خاصةً في المدن الصغيرة والأرياف.

وإن ضخ الاستثمارات اللازمة ونشر مثل هذا التعليم، إلى جانب زيادة دور التدريب المهني العملي في هذه المؤسسات، وتحسين برامج تعليم اللغة، وتقليص متطلبات البيروقراطية، تشكل اللبنة الأساسية لحل القسم الأكبر من مشكلة نقص العمالة وضمان موقع الريادة للاقتصاد الألماني على الصعيدين الأوروبي والعالمي. (DW)[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها