هذا هو نموذج عمل نظام الأسد لدعم تنظيم الدولة
لا يزال تنظيم «الدولة الإسلامية» يشكل تهديداً من قبل المتمردين في العراق وسوريا وتهديداً عالمياً كشبكة إرهابية، إلا أنه لم يعد يسيطر على مناطق كبيرة، كما أن الخطر الذي يشكله هو جزء صغير مما كان عليه في السابق. وتصدى المجتمع الدولي للتحدي الذي يشكله تنظيم «داعش» لكنه فشل فشلاً ذريعاً في مواجهة المشاكل متعددة الأوجه التي طرحها الأسد، والذي عمل نظامه لسنوات مع التنظيم الإرهابي.
وفّر نظام بشار الأسد الدعم بشكل منتظم إلى تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») عندما كان التنظيم يسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي، حتى عندما كان النظام يكافح لاستعادة السيطرة على الأراضي السورية من مختلف الجماعات المتمردة المشاركة في الحرب الأهلية السورية، بما في ذلك تنظيم «داعش». وكان أحد التكتيكات الرئيسية لاستراتيجية النظام هو تركيز جهوده العسكرية لمحاربة الجماعات المتمردة السورية المعتدلة التي تعارض دكتاتورية الأسد، ولا سيما «الجيش السوري الحر»، وليس تنظيم «الدولة الإسلامية». وقد جرت العادة أن يشارك الأسد في أي قرارات رئيسية، وأن يتنبه المسؤولون الحكوميون إلى تبعات اتخاذ قرارات حساسة أو اتخاذ إجراءات حساسة دون موافقة مسبقة من الأسد. لذلك من غير المعقول أن تكون المخابرات السورية قد ساعدت عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية» أو سهلت لهم أو سمحت لهم بذلك دون اتخاذ قرار مسبق من قبل أعلى مستويات الحكومة السورية. واتخذ النظام السوري هذا القرار الاستراتيجي لتمكين وتسهيل صمود تنظيم «الدولة الإسلامية» بشكل متواصل في سوريا، سعياً منه لتصوير كافة عناصر المعارضة السورية على أنها “إرهابية”.
وفي أيار/مايو 2011، في أعقاب بعض المظاهرات المبكرة لـ “الربيع العربي” في سوريا، بدأت الحكومة السورية بإطلاق سراح إرهابيين إسلاميين متشددين في أول سلسلة من قرارات العفو الرسمية التي أصدرتها الحكومة. فعلى سبيل المثال، شمل المرسوم رقم 61، الصادر في أيار/مايو 2011، “جميع أعضاء «الإخوان المسلمين» وغيرهم من المعتقلين المنتمين إلى حركات سياسية”. وباشر العديد من الإرهابيين الذين تمّ الإفراج عنهم بموجب قرارات العفو الأولى هذه بقيادة جماعات إسلامية متطرفة في سوريا، بمن فيهم مؤسس «أحرار الشام» حسان عبود؛ وقائد «جيش الإسلام» زهران علوش؛ وقائد ألوية «صقور الشام» أحمد عيسى الشيخ، إلى جانب شخصيات بارزة في تنظيم «داعش» مثل علي موسى الشواخ (الملقب بأبو لقمان). وفي هذا الإطار، صرّح بسام بربندي، الدبلوماسي السوري السابق في وزارة الخارجية السورية، الذي انضم لاحقاً إلى المعارضة لصحيفة “وول ستريت جورنال” في عام 2014 بأن “الخوف من استمرار الثورة السلمية هو السبب في إطلاق سراح هؤلاء الإسلاميين. أما التفكير المنطقي وراء إطلاق سراح الجهاديين، بالنسبة للأسد والنظام، فهو أنهم بدائل للثورة السلمية. فهم يعملون وفق عقيدة الجهاد ويخشاهم الغرب”.
من خلال إيواء الجهاديين معاً في سجن صيدنايا سيئ السمعة قبل التمرد، عمل النظام بشكل فعال على ربط الجهاديين المتباينين وغير المتصلين سابقاً،والذين جاءوا ليشيروا إلى أنفسهم على أنهم خريجو صيدنايا. ووفقاً لأحد الجهاديين المفرج عنهم في صيدنايا، “عندما تم اعتقالي، كنت أعرف أربعة أو خمسة أو ستة [جهاديين]، لكن عندما أُطلق سراحي عرفت مائة أو مائتين أو ثلاثمائة [جهادي]. لدي الآن إخوة في حماة وحمص ودرعا والعديد من الأماكن الأخرى، وهم يعرفونني. لم يستغرق الأمر سوى بضعة أسابيع قصيرة – أسابيع، وليس شهراً – لكي نبدأ، في جماعات من اثنين أو ثلاثة [من الجهاديين]، في سرية تامة”.
وناهيك عن الإفراج الاستراتيجي والمتعمد لإطلاق سراح الجهاديين من السجون السورية، امتنع نظام الأسد أيضاً بشكل متكرر عن مهاجمة مواقع تابعة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية». وفي بعض الأحيان، وافق نظام الأسد وتنظيم «داعش» على العديد من صفقات الإخلاء، وفي بعض الأحيان بدا أن النظام يتواطأ مع التنظيم في محاولة لتشجيعه على مهاجمة المتمردين المعتدلين بدلاً من النظام. وفي حالات أخرى، بدا أن تنظيم «داعش» يتخذ إجراءات تصب في مصلحة الحكومة السورية. فعلى سبيل المثال، في تموز/يوليو 2014، انسحبت قوات تنظيم «الدولة الإسلامية» من الضواحي الشمالية لحلب في الوقت الذي كان فيه النظام السوري يحاول الالتفاف حول قوات «الجيش السوري الحر» المتواجدة في المدينة. وقد مكّن انسحاب تنظيم «الدولة الإسلامية» قوات النظام من احتلال الضاحية الشمالية للمدينة دون إطلاق رصاصة، ثم تطويق قوات «الجيش السوري الحر» في المدينة من ثلاث جهات.
وكان أحد الأسباب التي دفعت بنظام الأسد إلى عدم استهداف مواقع تنظيم «داعش» في شرقي سوريا هو التعاملات التجارية للنظام مع التنظيم. وصرحت وزارة الخارجية الأمريكية بشكل لا لبس فيه أن “النظام السوري اشترى النفط من تنظيم «الدولة الإسلامية» عبر وسطاء مختلفين، مما زاد من عائدات التنظيم الإرهابي”. وبدأ ذلك في حوالي عام 2014، عندما سيطر تنظيم «داعش» على منطقة دير الزور في شرق سوريا، وسيطر على أكثر من 60 في المائة من حقول النفط في البلاد، بما فيها حقل “العمر” النفطي الأكبر في سوريا. وبحلول أيلول/سبتمبر 2014، قُدّر الدخل اليومي لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» من نفط الحقول العراقية والسورية بحوالي 3 ملايين دولار يومياً، مع مبيعات بحوالي 50,000 برميل يومياً في سوريا وحدها.
وفي عام 2015، ظهرت تقارير مفادها بأن تنظيم «الدولة الإسلامية» كان يبيع على الأقل بعضاً من نفطه للحكومة السورية. ووفقاً لوزارة الخزانة الأمريكية، في عام 2014، “ربما يكون تنظيم «داعش» قد كسب ما يصل إلى عدة ملايين من الدولارات في الأسبوع، أو ما مجموعه 100 مليون دولار، من بيع النفط والمنتجات النفطية للمهربين المحليين الذين يبيعونها بدورهم إلى الجهات الفاعلة الإقليمية، ولا سيما نظام الأسد”. وفي آذار/مارس 2015، أدرج “الاتحاد الأوروبي” رجل الأعمال السوري البارز جورج حسواني على القائمة السوداء، موضحاً أن “الحسواني يقدم الدعم ويستفيد من النظام من خلال دوره كوسيط في صفقات شراء النفط من تنظيم «الدولة الإسلامية» من قبل النظام السوري”. وفي غضون ذلك، ووفقاً لتحقيق أجرته صحيفة “فايننشال تايمز”، كانت هناك تقارير تفيد بأن شركة حسواني، “هيسكو”، “ترسل إلى تنظيم «داعش» 15 مليون ليرة سورية (حوالي 50 ألف دولار) شهرياً لحماية معداتها، والتي تبلغ قيمتها عدة ملايين من الدولارات”. ونفى نجل حسواني ذلك، لكنه أكد أنه في الواقع، يدير تنظيم «الدولة الإسلامية»، “جزئياً”، مصنع الغاز في توينان التابع للشركة.
ومع ذلك، لم تنته التعاملات التجارية لنظام الأسد مع تنظيم «داعش» بالنفط والغاز. فقد قام النظام أيضاً بشراء وبيع الحبوب من المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية». ووفقاً لبعض التقارير فإن سامر فوز، رجل الأعمال السوري الذي أدرجه “الاتحاد الأوروبي” على القائمة السوداء في 2019 لتقديمه التمويل وغيره من أشكال الدعم لنظام الأسد، نقل الحبوب من المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية إلى الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم «الدولة الإسلامية». ووفقاً لتقارير أخرى، قام أيضاً بنقل القمح من مناطق سيطرة تنظيم «داعش» عبر تركيا إلى مناطق سيطرة النظام السوري.
كما دعم النظام السوري تمويل تنظيم «الدولة الإسلامية» من خلال السماح للمصارف السورية بمواصلة العمل وتقديم الخدمات المالية داخل الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم «داعش». وفي تقرير عن تمويل تنظيم «الدولة الإسلامية» صدر في شباط/فبراير 2015، وجدت “مجموعة العمل المالي” – وهي الهيئة متعددة الجنسيات التي تطوّر وتعزز سياسات مكافحة الأنشطة المالية غير المشروعة – أن “أكثر من 20 مؤسسة مالية سورية لها عمليات في الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم «داعش»” واصلت القيام بأعمال تجارية هناك. بالإضافة إلى ذلك، بقيت هذه الفروع “مرتبطة بمقرها الرئيسي في دمشق. وبعضها قد يحتفظ بروابط مع النظام المالي الدولي”.
كما نظر نظام الأسد في الاتجاه الآخر وسمح لتنظيم «الدولة الإسلامية» بإجراء معاملات مالية من خلال شبكات مالية غير رسمية، حتى بعد أن تم الكشف علناً عن هذه القنوات غير المشروعة لتمويل الإرهاب. على سبيل المثال، في نيسان/أبريل وأيلول/سبتمبر وتشرين الثاني/نوفمبر 2019، حددت وزارة الخزانة الأمريكية سلسلة من الميسرين الماليين لتنظيم «داعش» وشركات خدمات الأموال التي كانت تمكّن أنشطة التنظيم في سوريا وخارجها. لكن الحكومة السورية لم تتخذ أي إجراء ضد الوسطاء الماليين المعلنين لتنظيم «الدولة الإسلامية»، الذين استمروا في العمل دون أي مضايقات.
ولم تكن الشبكات المالية لتنظيم «الدولة الإسلامية» المعنية كبيرة ومهمة، مما جعل قرار الحكومة السورية بعدم التصدي لها، حتى بعد أن أصبحت أنشطتها علنية، أمراً مزعجاً للغاية. فقد شملت على سبيل المثال “المدير المالي العام” لـ تنظيم «داعش» عبد الرحمن علي حسين الأحمد الراوي، الذي كان وفقاً للمعلومات الواردة في بيان صحفي لوزارة الخزانة الأمريكية الذي صنفه على قائمة الإرهاب في نيسان/أبريل 2019، “واحداً من بين عدد قليل من الأفراد الذين قدموا تسهيلات مالية كبيرة لتنظيم «داعش» داخل سوريا وخارجها”. علاوة على ذلك، كان لدى عبد الرحمن سيولة بالعملة الصعبة في سوريا تقدر بعدة ملايين من الدولارات. وشغل منصب المدير المالي العام لتنظيم «الدولة الإسلامية»، وقبل انتقاله إلى تركيا، سافر في جميع أنحاء سوريا نيابة عن التنظيم”.
وتعني خسارة تنظيم «داعش» للأراضي، إلى جانب الزيادة النسبية في قوة النظام السوري، أن منفعة التنظيم لدمشق قد تلاشت إلى حدّ كبير. فقد هاجمت خلايا تنظيم «الدولة الإسلامية بشكل أساسي القوات المتحالفة مع النظام في البادية في عام 2020، ونفذت قوات النظام عمليات استهدفت قوات تنظيم «داعش» بدلاً من السماح لها بالانتقال كما كان من قبل، وأصبح التنظيم أكثر اعتماداً على شركات خدمات الأموال غير المشروعة في المنطقة لتحويل الأموال دولياً.
وفي حين لا يزال تنظيم «الدولة الإسلامية» يشكل تهديداً من قبل المتمردين في العراق وسوريا وتهديداً عالمياً كشبكة إرهابية، إلا أنه لم يعد يسيطر على مناطق كبيرة، كما أن الخطر الذي يشكله هو جزء صغير مما كان عليه في السابق. لكن لا يوجد تحالف عالمي واضح – سياسي أو عسكري – للتصدي للتهديد الذي يشكله نظام الأسد، الذي قتل أعداداً أكبر بكثير مما فعل تنظيم «داعش»، وسهل الأنشطة الإرهابية للتنظيم، وتسبب في نزوح السكان، وتدفقات الهجرة، وعدم الاستقرار الإقليمي الهائل. وقد تصدى المجتمع الدولي لتحدي تنظيم «الدولة الإسلامية»، إلا أنه فشل فشلاً ذريعاً في مواجهة التحديات المتعددة الأوجه التي يطرحها نظام الأسد، ناهيك عن التصدي للكارثة التي يمثلها نظام الأسد بحد ذاته.
[ads3]