علماء يكتشفون فيروسات تقود إلى أصول ” كوفيد-19 “

سافر فريق من العلماء إلى غابات شمال دولة لاوس، التي تقع جنوب الصين، في صيف عام 2020، أي بعد مرور 6 أشهر على ظهور مرض فيروس كورونا المستجد، لاصطياد الخفافيش، التي قد تؤوي أجسادها أنواع فيروسات مشابهة للفيروس المسؤول عن جائحة كوفيد-19.

ويقول تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، إن هؤلاء العلماء استخدموا الشباك المُخصّصة لصيد الطيور للإمساك بالخفافيش أثناء خروجها من الكهوف القريبة، وجمعوا عينات من لعاب وبول وبراز تلك الخفافيش في دولة لاوس، ثم أطلقوا سراحها مرة أخرى في الظلام.

ما الذي كشفته نتائج الاختبارات على هذه الخفافيش؟

تبيّن بعد الفحص الدقيق أنَّ تلك العينات تحتوي على العديد من الفيروسات التاجية التي يمكنها إصابة الخلايا البشرية، لكن كان هناك 3 من تلك الفيروسات تتطابق إلى حدٍّ كبير مع فيروس “سارس-كوف-2” (SARS-CoV-2)، وهو الفيروس المسبب لمرض كوفيد-19، أكثر من أي فيروسات أخرى معروفة.

وقال مارك إلويت، اختصاصي علم الفيروسات بمعهد “باستور” في باريس، والذي قاد هذه الدراسة، لصحيفة نيويورك تايمز: “أظهرت الفيروسات التاجية المكتشفة في دولة لاوس تطابقاً أفضل حتى من السلالات المبكرة من “سارس-كوف-2″، من حيث “نطاق الارتباط بالمستقبلات”، وهي آلية تتيح للفيروس الارتباط بمستقبل معين على سطح الخلايا البشرية حتى يتمكّن من دخول الخلايا.

وبحسب موقع “عربي بوست”، أثار علماء الفيروسات ضجة كبيرة حول هذا الاكتشاف، يشتبه البعض في أنَّ هذه الفيروسات الشبيهة بفيروس “سارس-كوف-2” تصيب البشر بالفعل من وقتٍ لآخر، ما يؤدي إلى حالات تفشٍّ للعدوى خفيفة ومحدودة فقط، لكن مع توافر الظروف الملائمة، قد تتسبّب هذه الفيروسات في حدوث جائحة جديدة على غرار جائحة كوفيد-19.

هل أصل كوفيد-19 طبيعي المنشأ؟ العلماء يحسمون الجدل

يقول الخبراء إنَّ نتائج هذه الدراسة التي نُشرت على الإنترنت، الشهر الماضي، ولم تُنشر بعد في دورية علمية، تحمل أيضاً انعكاسات مهمة على الجدل المشحون حول جذور كوفيد-19. تكهّن البعض بأنَّ القدرة المرعبة لفيروس “سارس-كوف-2” على إصابة الخلايا البشرية لا يمكن أن تتطور من خلال فيروس طبيعي المنشأ، لكن يبدو أنَّ النتائج الجديدة تشير إلى خلاف ذلك.

قال مايكل وروبي، اختصاصي علم الفيروسات بجامعة “أريزونا” الأمريكية: “هذه النتائج تحسم الجدل الخاص بفكرة أنَّ هذا الفيروس لا بد أن يكون مُخلّقاً معملياً، أو حدث تلاعب في خصائصه بطريقةٍ ما في المختبر، حتى تكون لديه هذه القدرة الجيدة جداً على إصابة البشر”.

قد تساعد هذه الفيروسات الثلاثة المكتشفة داخل أجساد خفافيش غابات دولة لاوس، إلى جانب أكثر من 10 فيروسات أخرى اكتُشفت في الأشهر الأخيرة في لاوس وكمبوديا والصين وتايلاند، الباحثين في بناء توقع أفضل للأوبئة المستقبلية. تفيد معرفة شجرة عائلة الفيروسات في إعطاء تلميحات بشأن الأماكن التي يمكن أن تندس فيها السلالات ذات الخطورة المحتملة، بالإضافة إلى الحيوانات التي يتعيّن على العلماء بحثها لاكتشاف تلك السلالات.

أعلنت الحكومة الأمريكية، الأسبوع الماضي، عن مشروع بقيمة 125 مليون دولار لتعيين آلاف الفيروسات الشرسة في آسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا لتحديد مخاطر انتشارها.

فيروسات تاجية أخرى تنتظر الاكتشاف

من جانبه، توقع الدكتور مارك إلويت أنَّه لا يزال هناك العديد من أقارب فيروس “سارس-كوف-2” تنتظر الاكتشاف، قائلاً: “إذا كنت صياد سمك وليس لدي قدرة على صيد سمك السلمون المرقط، فإنَّ هذا لا يعني عدم وجود هذا النوع من السمك في النهر”.

عندما ظهر فيروس “سارس-كوف-2” المُسبّب لمرض كوفيد-19 لأول مرة، كان أقرب أقربائه المعروف هو فيروس تاجي أطلق عليه RaTG13، اكتشفه باحثون صينيون في عام 2016 داخل أجساد الخفافيش في منجم بمقاطعة يونان جنوبي الصين. يتطابق المحتوى الوراثي لهذا الفيروس بنسبة 96% مع فيروس “سارس-كوف-2”. قدَّر العلماء أنَّ فيروسي RaTG13 و”سارس-كوف-2″ قد تشاركا في سلف مشترك أصاب الخفافيش قبل حوالي 40 عاماً.

يستطيع فيروس “RaTG13” التشبث بالخلايا البشرية بدرجة أضعف من فيروس “سارس-كوف-2″، القادر على التشبث بالخلايا الموجودة في مجرى التنفس، ثمَّ غزوها، وهي الخطوة الأولى نحو إصابة قاتلة بـ “كوفيد-19”.

سافر الدكتور مارك إليوت وزملاؤه إلى شمال لاوس، على بعد حوالي 150 ميلاً من المنجم الذي وجد فيه الباحثون الصينيون فيروس RaTG13، من أجل العثور على أقارب آخرين لـ”سارس-كوف-2″. اصطاد إليوت وفريقه 645 خفاشاً ينتمون إلى 45 نوعاً مختلفاً على مدى 6 أشهر. كانت تلك الخفافيش تؤوي 24 نوعاً من الفيروسات التاجية، ثلاثة منها كانت مشابهة بشكل لافت للنظر لفيروس “سارس-كوف-2″، لاسيما في آلية الالتصاق بالخلايا البشرية.

التطور المعقد لفيروسات كورونا

وفي دراسة منفصلة، أخذ إليوت وزملاؤه عينات دم من عدد من سكان لاوس يجمعون ذرق الخفافيش لكسب لقمة العيش، إذ يعتبر روثها أكثر الأسمدة الطبيعية كفاءة في العالم. رغم أنَّ هؤلاء لم تظهر عليهم علامات الإصابة بـ”سارس-كوف-2″، لكن كانت لديهم أجسام مضادة يبدو أنَّها ناجمة عن الإصابة بعدوى فيروس مشابه.

اتفق لينفا وانغ، اختصاصي علم الفيروسات الجزيئية في كلية ديوك-نوس الطبية التابعة لجامعة سنغافورة، الذي لم يشارك في الدراسة، على أنّ حدوث مثل هذه العدوى أمر وارد جداً، لأنَّ الفيروسات المكتشفة حديثاً قادرة على إصابة الخلايا البشرية من خلال الالتصاق بإحكام بمُستَقبِل يُدعى ACE2، وهو بروتين موجود على سطح الخلايا البشرية.

ومن المفارقات أنَّ بعض الجينات الأخرى الموجودة في الفيروسات الثلاثة المكتشفة في لاوس تتطابق مع فيروس “سارس-كوف-2″، بدرجة أكبر من الفيروسات الأخرى الموجودة في الخفافيش.

يعود سبب هذا المزيج الجيني إلى التطور المعقد لفيروسات كورونا، فإذا أصيب خفاش لديه بالفعل عدوى أحد أنواع فيروس كورونا بنوع آخر، فقد ينتهي الأمر بالفيروسين المختلفين بالوجود في خلية واحدة في آنٍ واحد، عندما يبدأ كل فيروس في حقن مادته الوراثية داخل الخلية المضيفة واستنساخ نفسه، تختلط جيناتهما معاً، وهو ما ينتج عنه نسخة هجينة فيروسية جديدة.

يقارن سبيروس ليتراس، طالب دراسات عليا بجامعة “غلاسكو” الاسكتلندية، وزملاؤه الآن فيروس “سارس-كوف-2” ليس فقط بالفيروسات الجديدة المكتشفة في لاوس، لكن بأقارب آخرين عُثر عليهم في الأشهر الأخيرة، إذ يجدون مزيداً من الأدلة على هذا الخلط الجيني في عملية معروفة باسم “إعادة التركيب”.

قال ليتراس: “يتضح جلياً يوماً بعد يوم مدى أهمية دور إعادة التركيب في إعادة تشكيل الفيروسات من عامٍ إلى آخر”.

لماذا يبحث العلماء عن فيروسات كورونا في منطقة جنوب شرق آسيا؟

بناءً على هذه الرؤى الجديدة، قد يساعد اكتشاف المزيد من الفيروسات في توضيح الصورة كاملة، لكن العلماء منقسمون بشأن مكان البحث عنها. يعتقد مارك إلويت، اختصاصي علم الفيروسات بمعهد “باستور” في باريس، أنَّ أفضل رهان هو منطقة جنوب شرق آسيا التي تضم الموقع الذي عثر فيه زملاؤه على فيروساتهم التاجية، بالإضافة إلى مقاطعة يونان، حيث عُثر على فيروس “RaTG13”.

يعتقد علماء آخرون أنَّه من المفيد البحث عن أقارب فيروس “سارس-كوف-2” في مناطق أبعد. قال الدكتور مايكل وروبي من جامعة أريزونا: “تبين لنا عملية “إعادة التركيب” أنَّ هذه الفيروسات هي جزء من مجموعة جينية واحدة تمتد على مسافة مئات الأميال، إن لم يكن آلاف الأميال”.

وأضاف أنَّ “بعض الفيروسات التاجية، المكتشفة داخل أجساد الخفافيش وتشبه فيروس “سارس-كوف-2″، عُثر عليها في شرق الصين وتايلاند”.

في السياق ذاته، يعتقد كولين كارلسون، عالم الأحياء بجامعة “جورج تاون” الأمريكية، أنَّه ربما يكون هناك فيروس كامن في مكانٍ بعيد قادر في مرحلةٍ ما على إحداث جائحة على غرار جائحة كوفيد-19، مشيراً إلى أنَّ الخفافيش الموجودة في مناطق أقصى الشرق مثل إندونيسيا وأقصى الغرب مثل الهند تشترك في العديد من السمات البيولوجية مع الحيوانات المعروفة بحملها فيروسات شبيهة بفيروس “سارس-كوف-2” المُسبّب لجائحة كوفيد-19.

قال كارلسون: “المشكلة لا تقتصر على جنوب شرق آسيا فحسب، هذه الفيروسات متنوعة وعالمية أكثر مما كنّا نعتقد”.

هل كل هذه الفيروسات تشكل خطراً مميتاً على حياتنا؟

ومع ذلك، إذا وجد العلماء فيروسات أكثر تطابقاً مع فيروس “سارس-كوف-2″، فهذا لا يعني بالضرورة أنَّها تُشكّل تهديداً مميتاً على البشر، قد تفشل تلك الفيروسات في الانتشار بين البشر أو كما يتكهن بعض العلماء، تتسبب فقط في حدوث حالات تفشٍّ محدودة لعدوى ما.

قالت جيسيكا ميتكالف، الاختصاصية في مجال علم البيئة التطوري بجامعة “برينستون” الأمريكية: “يُحتمل وجود مجموعة واسعة من فيروسات كورونا الأخرى التي ينتهي بها المطاف إلى لا شيء”.

ومع ذلك، قد تساهم عملية “إعادة التركيب” في تحويل فيروس لا يُمثّل شيئاً بالنسبة للبشر إلى تهديد جديد. أفاد باحثون أنَّ فيروسين من عائلة فيروسات كورونا يصيبان الكلاب قد أنتجا هجيناً فيروسياً، بفضل عملية “إعادة تركيب”، أصاب 8 أطفال في ماليزيا.

في هذا الصدد، قال الدكتور كولين كارلسون: “عندما يستطيع واحد من الفيروسات التاجية -كنا نراقبه لعقود واعتقدنا أنَّه يخص فقط حيواناتنا الأليفة- تخطي أجساد الحيوانات والانتقال إلى البشر، كان ينبغي لنا توقع حدوث ذلك، أليس كذلك؟”.[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها