” بيت نزار قباني الدمشقي أصبح مركزا للثقافة الإيرانية “
لا إشارة أو لافتة تشير إلى وجود بيت نزار قباني (1923-1998) في الحارة المتفرعة عن الشارع المستقيم في دمشق، فالمنزل الواقع في حي “مئذنة الشحم” وسط البلدة القديمة، كان قد شهد طفولة الشاعر ونشأته منذ عشرينيات القرن الماضي، وفيه فتح نزار عينيه لأول مرة على جنة من الورد والأشجار والروائح، وكان المكان الذي قال عنه في كتابه “قصتي مع الشعر” متسائلاً: “هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة (…) وثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر، بل أظلم دارنا”.
ولولا أن تطوع الباحث علي مبيض أخيراً، ووضع لافتة صغيرة على باب منزل الشاعر الراحل حملت مطلع قصيدة له، لما عرف أحد تاريخ هذا البيت الذي اشترته عائلة عباس نظام من آل القباني عام 1968، إذ كان البيت أيضاً شاهداً على نشاط حركات التحرر الوطني ضد المستعمر الفرنسي، ولطالما كانت باحته ملاذاً لصفوف المتظاهرين، وموئلاً لهم للاستماع إلى خطب وبيانات يلقيها رجال الثورة السورية، وعلى رأسهم فوزي الغزي الملقب بأبي الدستور السوري. ومن ثم كانت الحشود الغاضبة تنطلق من بيت القباني إلى كل ساحات العاصمة السورية.
وبدلاً من أن يكون بيت صاحب “هكذا أكتب تاريخ النساء” مقصداً للزوار، ومتحفاً لمقتنياته الشخصية ومؤلفاته، أسوةً ببيوت كل من أحمد شوقي في القاهرة، وتشيخوف في يالطا، وفيكتور هوغو في باريس، وجبران خليل جبران في لبنان، تحول بيت القباني اليوم إلى منتدى ثقافي وسياسي إيراني غبّ الطلب. وقد نظم اتحاد الكتاب العرب في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2020 أول نشاط لشعراء إيرانيين وسوريين قرؤوا قصائدهم في باحته، رثاءً لقائد فيلق القدس قاسم سليماني، والعالم النووي والضابط في الحرس الثوري محسن فخري زادة، وجاءت تحت عنوان “مؤتمر نهج الشهيدين”. فاستحالت أشجار الكباد والنارنج والياسمين، وقناطر البيت الدمشقية إلى مساحة لصور سليماني وزادة والخامنئي، وحلت الخطب والقصائد السياسية في جنبات الدار التي كتب نزار لها أجمل أشعاره، فتغزل بشجيرات ياسمينها ونارنجها ووردها الشامي، وغفا عند عتبات ليوانها، وأطل من نوافذها.
ومن يزر البيت اليوم يلاحظ عدم وجود أي علامة يدل على الشاعر أو عائلته، فلا أثر لمطحنة بن أم المعتز النحاسية، ولا لركن والده أبي المعتز إلى جانب بحرة الماء التي جفت، وماتت الأزهار في أحواض الزرع المركونة على حوافها، ناهيك بكتلة المصعد الكهربائي الذي بات يتوسط البيت اليوم، ويحدث تشويهاً في أسقفه المزخرفة، وطرازه المعماري ببنائه ذي الطابع التراثي، واضمحلت الرسوم النباتية على أقواسه ومقنطراته، وتم استبدال العديد من أسقفه الموشاة باللوحات والجدرانيات الفسيفسائية.
يعكس بيت نزار قباني عراقة العمارة الدمشقية، وعبقرية بنّائيها في التوليف بين عناصر الماء والنبات، والزجاج المعشق، وأرضيات الرخام المعرق، والحجر الدمشقي الأبلق. وفي هذا الخصوص يقول الباحث غسان كلاس في كتابه “البيت الدمشقي في أدب نزار قباني”، والصادر حديثاً عن دار المقتبس: “هذا البيت كان الخلية الأولى التي احتوت نزار وليداً ويافعاً، وأثّرت في تكوينه وخلقه شاعراً ينشد الجمال الذي عاش في كنفه وفي رحابه، فكان أحد مفاتيح شعره وإبداعه. وكان هذا البيت بمثابة اللحظة الفردوسية التي اختلطت فيها الذات الشاعرة بتفاصيل المكان الدمشقي، لتغدو فلاً في أباريق الأم، وقطةً في صحن الدار، ويختلط المكان بالحلم، ليغدو مكاناً شخصياً وشعرياً، كأن ذات الشاعر تتوزع على ما مضى، وكأن ما مضى سكن روح الشاعر إلى الأبد”.
تبدو غرفة نزار قباني في الطبقة الثانية من البيت وحيدةً من صورة للشاعر السوري الذي تمر اليوم ذكرى رحيله الرابعة والعشرون بصمت، ومن دون أن تنظم وزارة الثقافة السورية أو أي جهة داخل البلاد، فعالية واحدة في بيت الشاعر الراحل الذي صار على ما يبدو حكراً على الأنشطة الثقافية الإيرانية، فيما تُوصد أبواب البيت في وجه الزوار إلا في حالة التنسيق المسبق مع مالكيه، ومن دون السماح لهم بالدخول إلى الغرف العشر التي يتكون منها البيت، أو إلى مرافقه التي تعرضت لكثير من التغييرات على واجهاته، وأدراجه ونوافذه المطلة، وواجهاته الحجرية.
تبدو قيمة هذا البيت كأثر ثقافي وعمراني في النصوص الغزيرة التي كتبها نزار قباني له، لا سيما أنه أورد عديداً من المقطوعات النثرية والشعرية في وصفه، والتغني بكل تفصيل من تفاصيله، كما في كتابه “دمشق… نزار قباني”، فينعت بيته بأنه “دمشق الصغرى”. ويضيف: “في دارنا الدمشقية كان اصطدامي بالجمال قدراً يومياً. كنت إذا تعثرت أتعثر بجناح حمامة، وإذا سقطت أسقط على حضن وردة، هذا البيت الدمشقي استحوذ على كل مشاعري، وأفقدني شهية الخروج إلى الزقاق، كما يفعل كل الصبيان في الحارات. طفولتي قضيتها تحت مظلة الفيء والرطوبة التي هي بيتنا العتيق في حي مئذنة الشحم. كان هذا البيت هو نهاية حدود العالم عندي، كان الصديق والواحة، والمشتى والمصيف (…) على السجادة الفارسية الممدودة على بلاط هذه الدار ذاكرت دروسي، وحفظت قصائد عمرو بن كلثوم، والنابغة الذبياني، وطرفة بن العبد، هذا البيت المظلة ترك بصماته واضحةً على شعري”.
والشاعر الذي كانت مراسم جنازته من أكثر المشاهد تأثيراً في حياة السوريين المعاصرة، لا يزال كثيرون من عشاقه يحتفظون بصور من موكب وداعه المهيب، وكيف مشى الصغار قبل الكبار في تأبين شاعرهم المفضل. الفتيات الصغيرات كن جنباً إلى جنب مع السيدات اللاتي كبرن على قراءة أشعاره، وتخاطف العشرات من الشباب الدمشقي تابوته بعد خروجه من حرم الجامع الأموي، فحملوه على الأكتاف من شمال المدينة إلى جنوبها، ومشوا به سيراً على الأقدام نحو مقبرة “باب صغير”، حيث يرقد الشاعر هناك على مقربة من بيته في البلدة القديمة، مغمضاً عينيه الزرقاوين على عبارات كُتبت على مدخل بيته: “هنا جذوري، هنا قلبي، هنا لُغتي. هنا سكن نزار قباني”.
سامر محمد اسماعيل – إندبندنت عربية[ads3]
يلعن روحك يا حافظ على هل الكر وعلى هل العائلة النجسة.