نيويورك تايمز : العام الذي غير كل شيء بألمانيا
حلّ الشتاء، وتبدو ألمانيا على أهبة الاستعداد، وبعد أن ساد القلق من أن تضطر البلاد إلى تقنين استهلاك الطاقة، نجحت الحكومة في ملء المخزونات.
واليوم، انطلق موسم العطلات بكامل قوته، تماماً مثلما كانت الحال في الأعوام الماضية. ومع أن المكاتب والمنازل أصبحت أشد برودة بعض الشيء، تعج الأسواق بالحركة، وتتلألأ الشوارع بأنوار الاحتفالات.
ولم يكن أي من ذلك أمراً مؤكدَ الحدوث. في الواقع، بذلت ألمانيا على مدار الشهور الـ10 منذ اجتياح فلاديمير بوتين لأوكرانيا، جهوداً حثيثة للعثور على بديل لإمدادات الغاز التي اعتادت الحصول عليها من روسيا، وتعادل 55 في المائة من وارداتها. وبلغت هذه الجهود درجة من الضخامة، إلى جانب فرض عقوبات ضد روسيا، وإمداد أوكرانيا بأسلحة وزيادة الإنفاق العسكري بألمانيا، دفعت المستشار الألماني، أولاف شولتز، لأن يصف هذه الفترة بـ«زايتنفيندي» ـ لفظ ألماني يعني «نقطة تحول كبرى» أو «منعطف تاريخي».
وبطبيعة الحال، يتضاءل هذا الإنجاز لدى مقارنته بالمثابرة التي يبديها الأوكرانيون. ومع ذلك، فإنه بالنسبة لدولة بدت في وقت ما عاجزة عن المضي قدماً من دون الغاز الروسي، فإن إضاءة أنوار الكريسماس تمثل إنجازاً يستحق التقدير.
ومع ذلك، يبدو هذا الشعور باستعادة الحياة الطبيعية مؤقتاً، بل وزائفاً، ببساطة لأن هذا العام كان أبعد ما يكون عن كونه عادياً أو طبيعياً. خلال العام، أحاطت علامات الاستفهام بألمانيا على مختلف الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بل والأخلاقية.
وخضعت قيمها الأساسية لتفحص عميق. وكشفت الشهور الـ10 الماضية النقاب عن بلد يعيد وضع تصور لنفسه، بعيداً عن اليقين القديم. ولا يمكن قياس حجم هذا التغيير، استناداً إلى الدبابات والمدافع ومنظومات الدفاع الجوي التي قدمتها ألمانيا لأوكرانيا، وإنما في عمق الضمير السياسي. على مدار عقود، التزمت ألمانيا موقف المتفرج تجاه الصراعات الأوروبية، أما هذه المرة أدركت ألمانيا أن هذه الحرب تخصها.
وجاءت الحرب في لحظة كادت أن تنسى فيها ألمانيا ما تعنيه الحرب. وفيما يخصّ الجيل الذي عايش سنوات الحرب العالمية الثانية، التي مضى عليها أكثر من 75 عاماً الآن، فإن أبناءه اليوم في التسعينات من العمر أو وافتهم المنية، وأولئك الذين عاشوا في ظلال هذه الحرب، تراجعت سيطرتهم اليوم على الحياة العامة بالبلاد.
الواقع أن الجيل الثاني بعد الحرب، الذين ولدوا في الستينات والسبعينات، أخذوا بزمام المشهد السياسي بالبلاد، بعد نهاية فترة ولاية أنغيلا ميركل في خريف 2021، قبيل شهور من غزو روسيا لأوكرانيا. وترأس أولاف شولتز، المولود عام 1958، حكومة تتألف في معظمها من سياسيين شباب، الكثير منهم في الأربعينات أو مطلع الخمسينات. كما أن الأحزاب الثلاثة الأولى بالبلاد ـ «الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني» و«حزب الخضر» والليبراليين ـ يقودها اليوم أشخاص من أبناء الجيل الثاني بعد الحرب.
ويتذكر أبناء هذا الجيل بالكاد «الحرب الباردة»، ونشأوا بعد انتهاء الصراعات الآيديولوجية، وبمعزل عن المخاوف من اشتعال صراع نووي. وبلغوا سن النضج في التسعينات، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتوحيد شطري ألمانيا وما بدا للبعض أنه «نهاية التاريخ». من وجهة نظر أبناء هذا الجيل ـ وأنا منهم ـ بدت الحرب احتمالية بعيدة ومستحيلة، تحدث بأماكن أخرى بعيدة. واعتقدنا أن الحرب «لن تحدث ثانية أبداً»، مثلما كان شعار الحرب في حقبة ما بعد الحرب. واعتقدنا أننا ترعرعنا في ظل السلام.
الحقيقة أن التسعينات والألفية الأولى من القرن الحالي شهدتا الكثير من أعمال العنف داخل أوروبا، منها حرب البلقان الوحشية التي بدأت عام 1991، والصراع حول انفصال ترانسنيستريا عن مولدوفا عام 1992. واستمرت حرب بوتين في الشيشان، والتي رافقها القصف المروع لغروزني عام 1999، على مدار عقد. عام 1998، اشتعلت الحرب في كوسوفو، وبعد 10 سنوات شنّت روسيا هجوماً ضد جورجيا. وبدأت الحرب في أوكرانيا عام 2014، عندما ضم بوتين جزيرة القرم لروسيا، وأشعل صراعاً انفصالياً بإقليم دونباس.
ورغم استمرار مشاركة ألمانيا ببعثة حلف «الناتو» في كوسوفو، فإنها لطالما تعاملت مع هذه الحروب باعتبارها تنتمي لعالم آخر ومناطق بعيدة عنها. البلقان؟ تقع بالتأكيد في أوروبا، لكنها ظلت متأخرة عن موجة الازدهار والاستقرار التي تمتع بها القلب الفرانكو ـ ألماني بأوروبا.
حرب روسيا في القوقاز وأوكرانيا؟ نظر إليها الألمان باعتبارها بعض الفوضى المرتبطة بحقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي لا صلة لهم بها. وعندما شارك الألمان في حروب ـ مثل أفغانستان ـ فإن ذلك جاء انطلاقاً من الشعور بالواجب والتضامن تجاه الحلفاء، وليس لأن هذه الحرب تمس ألمانيا.
وبمرور السنوات، تحول إيمان الألمان بعالم ما بعد العنف إلى حالة من الغطرسة والضعف. ولذلك، تحدثت ألمانيا عن المصالحة مع روسيا، بينما أغلقت عينيها عما يحدث في أوكرانيا، وادخرت الأموال التي وفّرتها من تقليص حجم المؤسسة العسكرية واعتادت الاعتماد على الغاز الروسي الرخيص. كانت هذه العقلية السائدة في صفوفنا نحن الألمان عندما استيقظنا في 24 فبراير (شباط) لنكتشف أن ما لا يمكن تخيله ـ غزو القوات الروسية لكييف وقصف سكانها ـ واقع قائم.
وقد بدل ذلك كل شيء. في ديسمبر (كانون الأول) العام الماضي، ومع حشد روسيا قواتها بالآلاف على الحدود الأوكرانية، استمر شولتز في الدفاع عن مشروع خط غاز «نورد ستريم 2»، الذي كان من شأنه نقل المزيد من الغاز الروسي إلى سواحل ألمانيا. وقبل أسابيع من اشتعال الحرب، أطلقت ألمانيا وعدها الشهير بتوفير 5000 خوذة لأوكرانيا.
ومع ذلك، تلاشت حالة الإنكار لدى ألمانيا وحلت محلها جهود محمومة بعد الاجتياح، مع ازدياد جرأة ألمانيا في وقوفها بوجه روسيا، ومحاولتها تحصين مواطنيها من عواقب ذلك.
وفي خضم هذه الفوضى، جرى التخلي عن المعتقدات السياسية التي لطالما تمسكنا بها. على سبيل المثال، أعلن وزير الاقتصاد وزعيم «حزب الخضر»، روبرت هابيك، الإبقاء على عمل المفاعلات النووية وإعادة الاستعانة بالفحم للحصول على الطاقة، بل وأبرم اتفاقاً مع قطر للحصول على الغاز المسال.
أما الليبراليون، فتخلوا عن إيمانهم بالميزانيات المتوازنة لتمويل الإنفاق العسكري والتخفيف من حدة ارتفاع تكاليف الطاقة.
كما تبدّلت الخريطة السياسية الذهنية داخل ألمانيا. وقاد شولتز الجهود الرامية لقبول أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا باعتبارها مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، وسعى لبناء روابط جديدة مع البلقان ـ التي تعاملت ألمانيا مع حروبها طوال سنوات باعتبارها تنتمي لعالم آخر. وانتقل من «يجب أن ينتصر بوتين في هذه الحرب» في مايو (أيار) إلى «سندعم أوكرانيا مهما تطلب الأمر» في يونيو (حزيران). وفي ديسمبر، ظهر في حديثه الضمير «نحن» ليضم أوكرانيا وألمانيا وأوروبا باعتبارهم خصوماً لروسيا.
إلا أنه من الصعب القول ما إذا كانت الخريطة الذهنية للمواطنين الألمان قد تبدلت هي الأخرى. جاء رد فعل الكثيرين تجاه الصدمة الأولى عبر إظهار قدر هائل من التضامن. واستضاف الآلاف لاجئين أوكرانيين أو أبدوا دعمهم لأوكرانيا بصورة أو بأخرى.
بوجه عام، لا يزال نحو نصف الألمان يدعمون إمداد أوكرانيا بأسلحة. ونجحت الحكومة الألمانية في تحصين البلاد في مواجهة تداعيات التضخم وارتفاع تكاليف الطاقة. والواضح أن البلاد بأكملها تعدل موقفها لتتواءم مع الواقع الجديد.
أنا ساوبيري – نيويورك تايمز / الشرق الأوسط[ads3]