فاينينشال تايمز : ألمانيا على أطلال الماضي .. الاستثمار شحيح في عجائب الغد
في بداية هذا القرن، كان من الممكن أن يراهن مستثمر زائر للأرض من المريخ رهانا كبيرا على بروز ألمانيا كواحدة من الفائزين في ثورة الإنترنت. الدولة المكتظة بأفضل المهندسين على مستوى العالم، والمصرفيين المراعين للصناعة، ورجال الأعمال المجتهدين، بدت في وضع قوي يجعلها تقلب إتقانها الأجهزة إلى البرمجيات. لكن الأمر لم يسر على هذا النحو. كما يوضح تقريران حديثان، هناك ترس واحد مهم على الأقل مفقود في تحويل أفكار الشركات الناشئة الذكية إلى شركات رقمية عالمية: رأسمال النمو.
ألمانيا متخلفة كثيرا عن الولايات المتحدة والصين والمملكة المتحدة في إنشاء شركات تكنولوجية أحادية القرن، الشركات الناشئة التي تزيد قيمتها على مليار دولار. على الرغم من أن الدولة فيها كثير من صناديق التقاعد هائلة الحجم، فإن هذه الصناديق تخصص جزءا صغيرا فقط من أموالها لرأس المال المغامر، الذي يوفر معظم القوة الدافعة للشركات الناشئة.
استثمرت صناديق رأس المال المغامر في جميع أنحاء أوروبا مبلغ 77 مليار يورو العام الماضي، أي أقل بكثير من إجمالي استثمار الولايات المتحدة البالغ 188 مليار يورو. لكن حتى داخل أوروبا، ألمانيا شحيحة في الاستثمار: كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، بلغ رأس المال المغامر في البلاد 0.25 في المائة فقط العام الماضي، مقارنة بـ0.33 في المائة في جميع أنحاء أوروبا و0.78 في المائة في الولايات المتحدة.
هل لهذا أهمية؟ في النهاية، لا تزال ألمانيا اقتصادا ناجحا بوضوح مع وجود قاعدة تصنيع قوية فيها وقطاع تصدير نشط. إلى جانب ذلك، القدرة على إنشاء شركات تكنولوجية أحادية القرن وسريعة النمو، لكنها غالبا ما تكون خاسرة، قد لا تكون المقياس الأفضل للنجاح الاقتصادي، إضافة إلى نجاحها المجتمعي. ربما يجادل كثير من الألمان بأن الشركات أمثال فيسبوك وآير بي إن بي وأوبر الموجودة في هذا العالم تتسبب في مشكلات خارجية، ما يؤدي إلى إضعاف القيم المجتمعية وحقوق العمال.
لكن ما زال بإمكان ألمانيا إنشاء قطاع تكنولوجي أكثر ثباتا والسيطرة عليه من خلال التعلم من المزايا المالية للولايات المتحدة دون تقليد العيوب الملحوظة. ولأسباب تتعلق بالسيادة والازدهار، تحتاج ألمانيا إلى حشد قدر أكبر بكثير من رأسمال النمو.
يشير تقرير صادر عن الاتحاد الألماني للأسهم الخاصة ورأس المال المغامر ومؤسسة اقتصاد الإنترنت، إلى أن المعجزة الاقتصادية الألمانية التي ظهرت في الخمسينيات والسبعينيات كانت مدفوعة إلى حد كبير بالاستثمار القوي في الشركات الجديدة والمؤسسات متوسطة الحجم. خلال تلك الأعوام، بلغ الإقراض المصرفي لهذا القطاع 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. لكن الرقم المقارن اليوم هو 1 في المائة فقط. لا تزال ألمانيا تعيش على أمجاد ماضيها، ولا تستثمر بما فيه الكفاية في عجائب الغد.
الأمر الأشد مرارة هو أن المستثمرين في أمريكا الشمالية، الذين يدعمون كلا من شركات رأس المال المغامر في الولايات المتحدة وألمانيا، منكشفون بشكل أكبر على الشركات الألمانية الناشئة مقارنة بصناديق المعاشات التقاعدية في البلاد. وهذا يعني أن مركز الجذب للاقتصاد الألماني قد يتحول إلى المحيط الأطلسي أكثر وأكثر، ما يهدد السيادة التكنولوجية. يقول كلاوس هوملز، رئيس صندوق رأس المال المغامر ليكستار “إذا لم تكن في جولات التمويل في المراحل المتقدمة، فسيتم تصدير الحوكمة إلى حيث تأتي الأموال”.
لنأخذ شركة فليكس مثالا، وهي شركة ناشئة تأسست في ميونيخ تدير منصة نقل دولية. وفقا لتحليل أجرته شركة ريدستون لرأس المال المغامر، تمتلك صناديق التقاعد الأمريكية بشكل غير مباشر نحو 12 في المائة من “فليكس”، في حين تمتلك نظيراتها في ألمانيا 0.3 في المائة فقط. في المجموع، تقدر “ريدستون” أن صناديق التقاعد الأمريكية تمتلك 10 في المائة من شركات التكنولوجيا أحادية القرن في ألمانيا، التي تبلغ قيمتها الإجمالية 47 مليار يورو، مقارنة بـ0.2 في المائة تمتلكها صناديق التقاعد الألمانية.
تقول جانيت زو فورستنبرج، الشريكة المؤسسة لشركة لا فاميليا لرأس المال المغامر “إلى أن نحصل على قاعدة رأسمالية أقوى، فإن ثمار هذه الشركات سيتم توزيعها هناك وليس هنا”.
وبصفتها مستثمرة، تقول زو فورستنبرج “إنها متحمسة لمجموعة جديدة من الشركات الناشئة، مثل سيلونيس وبيرسونيو وفاي، التي تظهر أنه يمكن بناء شركات برمجيات بمستوى عالمي في ألمانيا”. لكنها تنظر نظرة إعجاب وراء الحدود نحو فرنسا، حيث عملت الحكومة على حشد الاستثمار المؤسسي لمصلحة قطاع التكنولوجيا بنجاح. وقد ساعدت المبادرة المسماة تيبي في إنشاء مجموعات جديدة من رأس مال النمو. “إن فرنسا تقوم بعمل رائع، وهناك كثير يمكننا تعلمه منهم”، كما تقول.
يتحدث مهندسو البرمجيات أحيانا عن صنيع “فرانكنشتاين” (الشخصية الأدبية الرئيسة في رواية فرانكنشتاين لماري شيلي)، وهو ما يعني أنه يمكنهم صنع مشروع من خلال دمج خصال مختلفة معا. لدى أوروبا فرصة لتنفيذ هذه الفكرة في قطاع الشركات الناشئة من خلال الجمع بين إبداع ألمانيا “التي تتفاخر بأن طلبات براءات الاختراع لكل شخص لديها تزيد بنسبة الثلث عن الولايات المتحدة”، مع حيوية مشهد الاستثمار في المراحل المبكرة الذي تحفزه حكومة المملكة المتحدة، وتنامي قوة مؤسسات التمويل الفرنسية.
الفرق الوحيد عن قصة ماري شيلي الأسطورية هو أن “وحش” فرانكنشتاين من شأنه أن يقوي من يصنعه بدلا من تدميره.[ads3]