صحيفة إسرائيلية : مثل تركيا و مصر .. سنقيم منطقة عازلة باقتطاع أراض من قطاع غزة

 

وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، كان أكثر وضوحاً عندما رسم الحدود المشروعة للحرب في قطاع غزة؛ ففي 10 تشرين الثاني، طرح بلينكن المبادئ التي ستصمم عليها واشنطن: لن يكون هناك تهجير قسري لسكان غزة، ولن تكون غزة قاعدة انطلاق لنشاطات إرهابية ضد إسرائيل، ولن يحدث تقليص لمساحة القطاع. ستلتزم واشنطن بسيطرة فلسطينية موحدة في الضفة الغربية وقطاع غزة.

الآن، يلوح في الأفق مسار تصادم ثالث بين إسرائيل والإدارة الأمريكية. فقد نشرت وكالة “رويترز” بأن إسرائيل أبلغت عدداً من الدول العربية عن نيتها اقامة منطقة عازلة بين إسرائيل والقطاع عند انتهاء الحرب. حسب التقرير، فإن إسرائيل أشركت الأردن ومصر والإمارات وتركيا والسعودية في هذا. لم يعط التقرير أي تفاصيل عن الجوانب التقنية عن هذا القاطع الأمني المستقبلي، ولكن يمكن الافتراض بأن الحديث يدور عن منطقة محايدة تمتد على طول الحدود بين إسرائيل والقطاع، بعمق متغير، تستهدف منع التسلل سيراً على الأقدام أو عبر آليات للمخربين.

أساس هذه الخطة العملياتي هو أن القطاع سيبقى مصدراً للتهديد البري حتى بعد انتهاء الحرب، حتى لو تم القضاء على التهديد البالستي. هذا القاطع الأمني يجب أن يمنع الخطر أو على الأقل يعطي قوات الأمن الزمن الكافي للاستعداد له.

“القاطع الأمني” لا يعتبر اختراعاً جديداً، سواء في العالم أو الشرق الأوسط. مثلاً، تركيا أقامت قاطعاً أمنياً بينها وبين سوريا، الذي أصبح جداراً بني بين الدولتين قبل سنوات. وقامت مصر “بتنظيف” منطقة بعمق 3 كم على طول الحدود بين القطاع وشبه جزيرة سيناء.

لتنفيذ القاطع الأمني، احتلت تركيا مناطق داخل سوريا على طول الحدود بين الدولتين، وأقامت فيها قواعد عسكرية وضعت فيها قوات تركية تعمل مع مليشيات للمتمردين السوريين بتمويل تركي. تسيطر تركيا أيضاً مباشرة على عدة قرى وبلدات في سوريا، وتدير معظم البنى التحتية المدنية وقوات الشرطة. طموحات تركيا أبعد من ذلك؛ تسعى أنقرة إلى تعميق هذا القاطع الأمني، 30 كم داخل أراضي سوريا، بهدف دفع الأكراد إلى سوريا. هكذا تقيم منطقة أمنية بشكل ثابت تحميها من هجمات الصواريخ، وليس فقط من الاقتحام سيراً على الأقدام.

المنطقة الأمنية التركية لها هدف ديمغرافي أيضاً. فتركيا تخطط لنقل نحو مليون لاجئ سوري إلى هذه المنطقة؛ ربع اللاجئين الموجودين في تركيا منذ اندلاع الحرب الأهلية في 2011. وبذلك، هي تحدث ثورة ديمغرافية يتم فيها تخفيف عدد الأكراد الذين هم في معظمهم أعداء في نظر تركيا من خلال نقل السوريين العرب. حسب حلم تركيا، فإن طرد الأكراد أو تقليصهم الواضح سينهي حلم الأكراد بإقامة دولة مستقلة توحد تحت سيطرتها أكراد تركيا والعراق وسوريا وإيران.

هناك عدة تشابهات بين استراتيجية إسرائيل واستراتيجية تركيا بخصوص الجماعات القومية التي تهددها. التوزيع الجغرافي والتقسيم الأيديولوجي يثقلان على طموحات هذه الجماعات. ليس لأن التواصل الجغرافي – السياسي للأكراد غير موجود منذ الحرب العالمية الأولى، بل لأن الانقسام الأيديولوجي العميق بين الأكراد وطموحات الأكراد في سوريا والعراق وبين طموحات الأكراد في تركيا، والانقسامات الداخلية في كل واحدة من هذه الجماعات، ستضمن تأجيل تحقيق فكرة الحكم الذاتي إلى آخر الزمان.

بصورة مصغرة، هذه الخلافات تتجسد في العلاقات بين حركة فتح وحماس، وبينهما وبين تنظيمات فلسطينية أخرى، التي إضافة إلى غياب التواصل الجغرافي شكلت عائقاً رئيسياً أمام اتفاق وطني فلسطيني على حل سياسي، وخدمت مصلحة إسرائيل التي رعت الانقسام الفلسطيني الداخلي والفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية.

لكن القاطع الأمني الذي أقامته تركيا في الأراضي السورية ضد تهديد الأكراد لا ينهي طموحات الأكراد القومية أو واقع الاحتلال الذي تتعرض له جزء من المحافظات الكردية في سوريا. رغم الوجود العسكري التركي في القاطع الأمني، فإن هذه ساحة مواجهة عنيفة بين القوات الكردية والقوات التركية، التي تخفق في إحباط عمليات الأكراد داخل تركيا بشكل كامل. حظيت تركيا بالهدوء الأمني النسبي فقط عندما بدأت تجري مفاوضات مع رئيس حزب العمال الكردستاني في العام 2009 كجزء مما اعتبره اردوغان سياسة الانفتاح تجاه الأكراد، التي في إطارها تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في 2013، قبل انهياره بعد سنتين تقريباً.

القاطع الأمني التركي داخل سوريا يذكر بشكل كبير بالقاطع الأمني الذي أقامته إسرائيل في جنوب لبنان، والذي تحول إلى ساحة قتال دائمة بين إسرائيل و”حزب الله” بعد طرد م.ت.ف من لبنان. القرار 1701 الذي أنهى حرب لبنان الثانية كان يمكن أن يرسخ قاطعاً أمنياً جديداً بين جنوب لبنان وإسرائيل، لكن فشل لبنان والمجتمع الدولي الذي كان يتوقع أن يطبقه بواسطة الأمم المتحدة، حوله إلى مفهوم نظري.

خلافاً للقاطع الأمني التركي، الذي كله في الأراضي السورية، أو القاطع الأمني الإسرائيلي الذي أقيم في الأراضي اللبنانية، فإن القاطع الأمني المصري الذي تم البدء بإقامته في 2015 لم يقتطع من أراضي القطاع. في المقابل، هو أكثر وحشية من القاطع التركي؛ لأنه فرض على آلاف المواطنين المصريين مغادرة أماكن سكنهم على طول القاطع والانتقال إلى شبه جزيرة سيناء، بالأساس إلى مدينة العريش ومحيطها. آلاف الأشجار اقتلعت، وتم تدمير بيوت وبنى تحتية من أجل تسوية “المنطقة النظيفة”. إضافة إلى ذلك، دمرت مصر آلاف الأنفاق الرابطة بين القطاع وسيناء، واستخدمت كمسارات لنقل السلاح لحماس وانتقال كبير للسلع والأشخاص على جانبي الحدود.

اعتبر القاطع الأمني المصري ناجعاً، لكن أهدافه تختلف عن الأهداف التركية أو الإسرائيلية؛ فمصر لم تهاجم بالصواريخ أو إطلاق النار من داخل القطاع، وكان هدف القاطع الأمني منع انتقال المخربين من التنظيمات الإسلامية الإرهابية من سيناء، مثل رجال “داعش”، إلى القطاع، وعودتهم مرة أخرى إلى سيناء. الأهم من ذلك أن الهدوء الذي حققته مصر على الحدود بينها وبين القطاع دعمته بمنظومة علاقات وثيقة، ضاغطة ومهددة، مع حماس التي تعهدت وحتى عملت على منع انتقال المخربين من سيناء إلى القطاع وبالعكس.

حتى السيناريو الذي سيتم فيه اجتثاث حماس، فهذا القاطع الأمني لن يعطي السكان في إسرائيل الأمن الذي سلب منهم بدون ترتيبات أمنية مع السلطة الفلسطينية التي ستقوم في القطاع. وربما يقضي على إعادة نمو تنظيمات تطمح إلى المواجهات المسلحة. خلافاً لشبه جزيرة سيناء وسوريا اللتين يسمح عمقهما الجغرافي بانتقال المدنيين إلى داخل الدولة، فإن قطاع غزة يعدّ قفصاً مغلقاً، وأي قطعة من الأرض تؤخذ منه للقاطع الأمني سيرافقها تهجير لآلاف السكان الذين سيزجون في منطقة هي في الأصل من أكثر الأماكن اكتظاظاً في العالم. النتيجة المتوقعة لا تحتاج إلى تخمين: بدون ترتيبات سياسية، ربما تكون بلدات الغلاف أكثر أمناً، لكن الجيش الإسرائيلي سيصبح هدفاً مباشراً في المنطقة “منزوعة السلاح”.

صحيفة هآرتس الإسرائيلية – القدس العربي[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها