قناة أمريكية : ناموا ولم يستفيقوا .. ” قاتل خفي ” في مخيمات شمال سوريا
“عندما تحول الفحم الحجري إلى جمر داخل المدفأة تأكدت الأم من دفء الأولاد وهم نيام واطمأنت عليهم تحت الأغطية خشية تسلل البرد.. لكن عندما عادت فجرا لتتفقدهم وجدتهم موتى”.
حاوت إيقاظهم وهي ترتجف، داخل خيمتهم الموجودة في منطقة أطمة شمالي سوريا، لكن دون جدوى “فالأمر انقضى”، إذ تسرب الغاز السام الصادر من اتقاد الجمر إلى رئتيهم وقتلهم ببطء، بحسب ما يقول والد الأطفال الثلاثة موسى عبد المنعم الحمادي وعبد الباري وعيسى.
تسلط هذه الحادثة المفجعة التي حصلت مطلع الأسبوع الحالي وراح ضحيتها ثلاثة أطفال وهم على فراش النوم وبجانب بعضهم البعض الضوء على “قاتلٍ خفي” بات يحصد أرواح قاطني المخيمات في شمال سوريا بشكل متزايد ومتواتر وبهدوء.
ورغم أن كثيرين ينجون منه بعد إسعافهم إلى المشافي، يشير أطباء ومسؤولي فرق إغاثة خلال حديثهم مع موقع قناة “الحرة” إلى آثار سلبية طويلة الأمد، لا تتعلق باستخدام الفحم الحجري للدفء فحسب، بل بمواد أخرى يعتمد عليها سكان الخيام مضطرين ويصدر عنها “سموم”.
ويبلغ أعداد النازحين السوريين في الشمال السوري نحو 2.1 مليون نازح، من أصل أكثر من 4 ملايين سوري يسكنون مناطق سيطرة المعارضة السورية.
ومثل هذا الرقم، أي مليوني شخص، يقيمون في المخيمات، حسب الإحصائيات التي يتيحيها فريق “منسقو الاستجابة في الشمال”، وهو فريق إنساني، موضحا أنهم يتوزعون على 1873 مخيما ومركز إيواء ومخيمات عشوائية.
ونادرا ما يكون بين سكان مخيمات الشمال السوري الخاضع لسيطرة فصائل المعارضة عائلات ميسورة الحال أو تكفي نفسها، كما يوضح الصحفي السوري المقيم في إدلب، عدنان الإمام، مما يضطر أفرادها للبحث عن بدائل رخيصة للعيش.
ومن بين هذه البدائل وخاصة في فصل الشتاء الاعتماد على الفحم الحجري للتدفئة بدلا عن الوقود والحطب.
ويعتمدون أيضا “على قطع الإطارات الصغيرة والأحذية البلاستيكية وألبسة البالة”، وفق الإمام.
الصحفي السوري يوضح أن الطن الواحد من الفحم الحجري يبلغ سعره بين 200 و220 دولارا أميركيا، وأنه عند قياس ثمنه بباقي مواد التدفئة تتكشف الأسباب التي تدفع العائلات في المخيمات للاعتماد عليه، رغم انبعاثاته السامة والخطيرة.
ويتراوح سعر البرميل الواحد من المازوت “المحسّن” بين 150 دولارا و200، ويصل سعر الطن الواحد من قشر الفستق الحلبي إلى 200 دولار.
ومع ذلك يشير الإمام إلى أن “اللجوء الكبير إلى الفجم الحجري يرتبط بالمدة الزمنية الطويلة التي يتيحها للدفء قياسا بالمازوت والأنواع الأخرى”.
“الوضع في المخيمات كارثي”، وفق تعبير الصحفي، ويتابع: “تخيل أن تحاول تأمين الدفء لأطفالها وعندما تصحوا تجدهم متوفين”.
ودائما ما يحذّر “الدفاع المدني السوري”، وهو فريق إغاثة وإسعاف في شمال سوريا، وفرق إنسانية أخرى، من مخاطر صحية كبيرة لغاز أول أكسيد الكربون.
“هو قاتل خفي، غاز سام عديم اللون والرائحة، ينتج عندما تكون عمليات الاحتراق غير كاملة”، حسب “الدفاع المدني”.
ويقول نائب مديره، منير مصطفى لـ “الحرة” إن التعرض المفرط للغاز يمكن أن يؤدي إلى التسمم بأول أكسيد الكربون، وهو ما أسفر عن وفاة الأطفال موسى وعبد الباري وعيسى.
ولم تكن هذه الحادثة الأولى من نوعها في مخيمات الشمال السوري، التي تعيش كل شتاء أوضاعا كارثية، تبدأ عند جرف السيول للخيام ولا تنتهي عند حد الوفاة اختناقا خلال محاولات السعي للحظي ببعض الدفء.
وما إن انتهت عائلة الأطفال من دفنهم حتى أبلغت السلطات الصحية هناك عن تعرض امرأتين في “مخيم الكويتي” بمنطقة أطمة لحالة اختناق واستنشاق أدخنة ضارة صادرة من مدفأة.
كما أصيب رجل وزوجته بحالة اختناق بسبب المدفأة في خيمة بمخيم بسقلا للمهجرين في بلدة بابسقا شمالي إدلب، يوم الأحد الفائت.
ووفق ما يوضح مصطفى ترتبط حالات الاختناق وبالغالب بـ3 أسباب، أولها غياب مفاهيم التوعية، وهو أمر موجود بنسبة ثابتة.
السبب الثاني، والأهم، هو استخدام العائلات في المخيمات مواد غير صحية للتدفئة، مثل الفحم الحجري والنايلون والبلاستيك، ومواد أخرى تخرج من عملية تكرير المحروقات”.
ويقول الناشط الإنساني إن أثر استخدامها لا يتوقف عند حد الاختناق واحتراق الخيام، وهو ما تم توثيقه مرات عدة، بل “يتوسع ليترك آثارا طويلة الأمد، كون الانبعاثات تقضي ببطء على الجهاز التنفسي”.
ومن جانب ثالث، يوضح مصطفى أن الخيام دائما ما تكون باردة، الأمر الذي يضطر سكانها لإغلاقها بشكل كامل ومحكم في فصل الشتاء، وهنا تحصل حالات الاختناق وفي ظل استمرار عمل المدفأة.
ويضيف: “الظروف المعيشية والاقتصادية كارثية، والعائلات مضطرة لاستخدام مواد غير صحية وهي ليست مخيّرة”.
منذ بداية العام الحالي 2024 استجابت فرق “الدفاع المدني” لأكثر من 50 حريقا، غالبيتها بسبب المدافئ في الشمال السوري، تسببت بإصابة 7 مدنيين بحروق وحالات اختناق بينهم طفلان وامرأة.
ولا تشمل هذه الإحصائية حادثة الأطفال الثلاثة وما تبعها من حوادث حصلت خلال الأسبوعين الماضيين.
ويعد حرق الفحم الحجري أمرا خطيرا بشكل خاص لأنه ينتج جسيمات صغيرة بما يكفي للوصول إلى عمق رئتي الأشخاص وحتى مجرى الدم دون أن يرفضها الجسم.
ويمكن أن يؤدي تراكم هذا النوع من الجسيمات إلى حدوث الالتهابات والربو وانخفاض الوزن عند الولادة والالتهاب الرئوي لدى الأطفال وإعتام عدسة العين وأمراض القلب وسرطان الرئة.
ويشير مدير “مديرية الصحة في إدلب”، الطبيب زهير القراط إلى أن مناطق الشمال السوري “تخسر أشخاصا في كل شتاء بسبب استخدام الفحم الحجري للتدفئة”.
ويوضح أن هناك حالات متكررة وصلت إلى حد الوفاة اختناقا، بينما يقول الطبيب حسام قره محمد إن الاختناقات “لم تعد حالات فردية بل كثيرة”.
ويضيف القراط لـ “الحرة” أن غالبية حالات الاختناق تحصل في المخيمات، بسبب حجم الخيمة الصغير، واتجاه العوائل لإحكام إغلاقها لمنع تسلل البرد.
لكن ذلك يؤدي إلى نقص الأوكسجين في الحيز الضيق بالأصل، وصولا إلى الوفاة.
ويعطي إشعال الفحم الحجري والأحذية البلاستيكية والمواد الأخرى غير الصحية المستخدمة في مخيمات الشمال السوري ثاني أوكسيد الكربون وأحادي أوكسيد الكربون بكمية كبيرة.
ويستهلك هذان الغازان شيئا فشيئا الأوكسجين الموجود في الحيز الصغير للخيمة، وفق مدير الصحة في إدلب.
“الانبعاثات الناتجة عن حرق البلاستيك والألبسة التالفة لها تأثير طويل الأمد على الرئتين وتسبب أمراضا مزمنة وطويلة الأمد”، كما يتابع القراط.
ويشرح أن غالبية الحالات التي تصل إلى المشافي تكون عليها علامات اختناق مثل نقص الأكسجة وزرقة فوق الشفتين، وآثار وجود غبار الفحم والدخان على المناطق المكشوفة من الجسم.
ويوضح الطبيب السوري، حسام قره محمد، أنه “عندما يتم إغلاق الخيام بشكل محكم من قبل قاطنيها كي لا تتسرب المياه والهواء يبدأ غاز أوكسيد الكربون بسحب مدخرات الأوكسجين منها خلال دقائق”.
ويقول إن الانبعاثات السامة لا تقتصر آثارها الخطيرة على المدى القريب والمتوسط بل تصل إلى حد التسبب بالتهاب القصبات التحسسي”.
وتتسبب أيضا بـ”حالات ترتبط بما يطلق عليها الأمراض البيئية، مثل الربو المحرض من البيئة أو أحد أشكال التليف الرئوي”، حسب قره محمد.
ولا تزال سوریا واحدة من أكثر حالات الطوارئ الإنسانية والحمایة تعقیدا في العالم، حسب الأمم المتحدة، ولا تزال تشهد كذلك واحدة من أكبر أزمات النزوح في العالم، حیث نزح 6.8 ملیون شخص عدة مرات داخل البلاد.
وأصبحت أغلب العائلات في شمال سوريا بشكل عام ونازحو المخيمات بشكل خاص غير قادرين على تأمين المستلزمات الأساسية وفي مقدمتها مواد التغذية والتدفئة لضمان بقاء واستمرار تلك العائلات على قيد الحياة، وفق تقرير نشره فريق منسقو الاستجابة”، الأسبوع الماضي.
وقال الفريق إن مؤشرات الحدود الاقتصادية في مناطق شمال غرب سوريا وصلت إلى مستويات جديدة هي الأعلى منذ سنوات، إذ ارتفع حد الفقر المعترف به إلى قيمة 9,314 ليرة تركية، وحد الفقر المدقع إلى قيمة 6,981 ليرة تركية.
وفي غضون ذلك تشهد المنطقة ارتفاع ملحوظ في أعداد المحتاجين للمساعدات الإنسانية وصلت إلى 4.6 مليون مدني، ومن المتوقع أن ترتفع الأرقام بشكل أكبر خلال الأشهر الستة القادمة، حسب ذات الفريق الإنساني.
وذلك نتيجة قلة فرص العمل وانتشار البطالة وغياب تام للجهات المسيطرة على المنطقة عن واقع المدنيين، إضافة إلى الانخفاض الشديد في نسبة المساعدات الإنسانية، التي أدت أيضا إلى ارتفاع واضح في أسعار المواد والسلع الغذائية وغير الغذائية.
* النص والعنوان لقناة الحرة الأمريكية
[ads3]