دويتشه فيله : أزمة السكن في ألمانيا .. عامل يهدد جذب العمال المهرة

سائقو الحافلات، مهندسون كهربائيون، فنيو الأنظمة الكهروضوئية، ومتخصصو تكنولوجيا المعلومات. هذه الوظائف تعد من بين ما يقرب من 200 وظيفة شاغرة توفرها حالياً مرافق البلدية في مدينة ميونيخ الألمانية حالياً. وتعد شركة البلدية، المسؤولة عن إمدادات الطاقة والمياه بالإضافة إلى النقل العام المحلي، واحدة من أكبر الشركات التي تشغل العمالة في العاصمة البافارية. ويوضح بيرنارد بويك من المرافق البلدية في ميونيخ، طبيعة الوضع في مقابلة مع DW قائلاً:” لفترة طويلة لم نستطع العثور على عدد كاف من العمال المهرة في مدينة ميونيخ”.
وفي ذات السياق تابع بويك قائلاً:”نحن الآن نشارك بانتظام في فعاليات التوظيف، على سبيل المثال في سراييفو وتيرانا وملقا”. لكن مقابلات العمل لم تعد تقتصر على الوظيفة. كما يشير بويك: “أثناء كل مقابلة تقريباً يتم التساؤل عن السكن”. ويقارن بويك احتمال العثور على شقة بأسعار معقولة في ميونيخ بالفوز باليانصيب. أما بالنسبة للأجانب الذين يبحثون عن سكن، يكون الوضع أكثر صعوبة”.
في استطلاع أجرته شركة التدقيق برايس ووترهاوس كوبرز (pwc)، ذكرت أربع من كل خمس شركات في ألمانيا أن الوضع المتوتر في سوق السكن زاد من صعوبة العثور على العمال المهرة والاحتفاظ بهم. وينطبق هذا بشكل خاص على القطاعات التي لا تدفع أعلى الأجور، أي في الرعاية الصحية، والمطاعم، والحرف، والتجارة. ويقول واحد من كل ثلاثة أشخاص عاملين في المدن الكبرى والمناطق الحضرية إنهم فكروا في الابتعاد وتغيير وظائفهم لأن أسعار الإيجارات مرتفعة للغاية.
بالنسبة لمجلس الخبراء الاقتصاديين، الذي يقدم المشورة للحكومة الفيدرالية، فإن أزمة السكن لها بالفعل “تأثير سلبي على التنمية الاقتصادية بالكامل”، أي أنها تعيق النمو في ألمانيا. وذلك يظهر جلياً في عدم قدرة الناس على الانتقال للعيش في الأماكن حيث يمكنهم العثور على عروض أفضل للعمل.
لكل متر مربع مخصص للإيجارات الجديدة في ميونيخ، يتم فرض متوسط إيجار قدره 25 يورو. ويقول بويك، أحد عمال المدينة: ” العمال لدينا هم في الغالب من الفئات ذات الأجور المتوسطة والمنخفضة، ولا يمكنهم دفع ذلك”. ولذلك قامت الشركة بتأسيس قسم للعقارات خاص بها، والذي يديره بويك. وقد تم بالفعل بناء أو شراء 1500 شقة، ومن المتوقع أن يرتفع العدد إلى 3000 بحلول عام 2030.”إذا كان بإمكانك إخبار مقدم طلب العمل بوجود عقد إيجار مرفق بعقد العمل، وهو ما يعد عامل جذب مهم”.
يتم تنسيق الإيجار مع مجلس العمال ويعتمد على دخل الفرد. “يدفع موظفو تكنولوجيا المعلومات أكثر من الأشخاص التقنيين.” يتم فرض متوسط للإيجار يبلغ اثني عشر يورو لكل متر مربع. “ليس علينا أن نحقق ربحاً من إيجار الشقق، بل علينا أن نعمل على تغطية تكاليفنا بشكل عام”، يوضح بويك.
وهذا ليس بالأمر السهل بالنظر إلى الزيادة الكبيرة في تكاليف البناء، ويقول: “نحن نحاول البناء والتجديد بأقصى قدر ممكن من الفعالية من حيث التكلفة ونعمل كثيراً على استخدام المكونات الجاهزة.”
لقد كان توفير السكن للعمال تقليدًا في ألمانيا منذ عقود. مع التحول الصناعي في منتصف القرن التاسع عشر ومن أجل تلبية الطلب المتزايد على العمال وربطهم بالشركة على المدى الطويل، قامت شركة تصنيع الصلب الألمانية “كروب” في البداية ببناء آلاف الشقق والمنازل. وحذت شركات أخرى حذوها. سواء في مناجم الفحم أو مكتب البريد أو السكك الحديدية. فقد تم إنشاء مستوطنات كبيرة لم توفر مساحة للعيش بأسعار معقولة فحسب، بل عززت أيضًا شعورًا قويًا بالانتماء للمجتمع بين العمال. ولكن في نهاية القرن العشرين، عندما لم يعد هناك نقص في السكن وازداد عدد العمال، تم بيع معظم هذه العقارات.
غير أن الوضع تغير الآن بشكل جذري، كما يرى رولف بوزنغر، وزير الإسكان: “لقد أصبحت قضية الإسكان إحدى القضايا المركزية بالنسبة لألمانيا كموقع تجاري”. قبل عشر سنوات، كانت الشركات الأجنبية الراغبة في الاستقرار في ألمانيا تطلب في المقام الأول أماكن للرعاية النهارية والمدارس. “والسؤال الأول الآن هو: أين الشقق المخصصة للعاملين لدينا؟”.
بناء 400 ألف شقة جديدة سنوياً هو الوعد الذي بدأ به الحزب الاشتراكي الديمقراطي والخضر والحزب الديمقراطي الحر فترة وجودهم في الحكومة في عام 2021. لكن ارتفاع تكاليف الطاقة والمواد والتضخم العام أدى إلى ارتفاع تكاليف البناء بشكل كبير. في عام 2022، تم بناء 295.300 شقة جديدة فقط في جميع أنحاء ألمانيا. ووفق قطاع العقارات، هناك الآن نقص يقدر بـ 800 ألف شقة في البلاد.
توفير مساحة سكنية للعاملين هو أيضاً “مهمة مستقبلية للشركات”، كما يقول وزير الدولة بوسنغر، الذي يدافع عن نفسه ضد الاتهامات بأن الحكومة تريد حل مشاكل الإسكان على حساب القطاع الخاص. تم توسيع مساعدات الدولة. وهناك حوافز ضريبية وبرامج دعم بالإعانات المالية والقروض الرخيصة من خلال بنك صندوق التنمية وإعادة الإعمار (KfW) المملوك للحكومة الفيدرالية.
وفي أحد المشاريع البحثية، وجد المعهد الألماني للأبحاث الاقتصادية أن 5 في المائة من الشركات تدعم الآن موظفيها بشكل مباشر من خلال عروض الإسكان الملموسة. ويشمل ذلك أيضاً استئجار الشقق في السوق المفتوحة وإعادة تأجيرها للعاملين. وتقدم 11 في المائة من الشركات الأخرى تدابير غير مباشرة، مثل استبدال الشقق أو إعانات الإيجار.
وقد حددت رابطة غرف الصناعة والتجارة الألمانية، الحاجة المتزايدة للحصول على المشورة بشأن موضوع سكن الشركات. يعد توفير مساحة للعيش أحد عوامل التكلفة التي يجب أخذها بعين الاعتبار في نموذج العمل. وكذلك إن كان لا يزال من الممكن تحقيق أرباح كافية على الرغم من زيادة التكاليف. هذا الأمر يعتمد أيضاَ على القوة الاقتصادية للشركة. تطرح أيضاً أسئلة قانونية واجتماعية، مثل: ماذا يحدث عندما يستقيل الموظفون أو يتقاعدون أو يتم إنهاء خدمتهم؟ هل يفقدون بعد ذلك حقهم في شقة الشركة ويضطرون إلى الخروج، أم أن هناك لوائح ممكنة حيث يتعين على المتضررين “فقط” دفع الإيجار المحلي؟ بالنسبة لشقق الشركة، فإن قانون الإيجار العادي مع الحماية الصارمة التي يوفرها ضد إنهاء الخدمة لا ينطبق إلا على نطاق محدود للغاية. وبدلاً من ذلك، ينطبق ما تم الاتفاق عليه عند العقد.
هناك قلق متزايد بين الساسة الألمان من أن تصبح أزمة السكن أكثر تفاقماً بعد أن تشتري الشركات أو تستأجر المزيد من شقق العقارات القائمة بدلا من بناء شقق جديدة. ويمكن أن يصبح العرض محدوداً أكثر في ظل تفضيل الشركات لهذا النوع من السكن بهدف جذب العمال المهرة من الخارج.
ولذلك يطالب اتحاد نقابات العمال الألماني بإلزام الشركات التي تنتقل إلى المنطقة ببناء مساكن للموظفين لديها. وفي هذا الصدد يشير بيرنهارد بويك، من المرافق البلدية في ميونيخ، إلى مجموعة من الإجراءات التي تمكن من العمل على هذا المشروع. “الأمر كله متعلق بالمال وتحتاج الحكومة إلى توفير المزيد”. ويرى بويك أيضاً أن “من واجب الولايات والبلديات توفير مساحات للبناء. لأن ذلك سيساعد كثيراً”. (DW)