بلومبرغ : ألمانيا تعاني أزمة هوية تراكمت عناصرها على مدى 80 عاماً

جاب المستشار الألماني أولاف شولتس البلاد ليعقد سلسلة لقاءات مع مواطنيه استمرت حتى سبتمبر وكان ذلك في ظل تنامي الاستياء الشعبي من الخلافات السياسية والتباطؤ الاقتصادي، وانتهى ذلك بانهيار الائتلاف الحكومي المؤلف من ثلاثة أحزاب الذي كان يترأسه. كانت رحلات شولتس محاولةً أخيرةً لتحسين سمعته بعد انطباعات بأنه قائد غير مبالٍ وضعيف الأداء.
كانت محطة جولته الأخيرة برلين، حيث واجهه رجل يعمل في مجال رعاية الأطفال، تحدث إليه بصوت هادئ سائلاً عن السبب الذي يجعل أعضاء الطبقة الحاكمة يتصرفون كثلّة أطفال مشاكسين. أقر شولتس بأن الانتقاد في محله دونما مراوغة أو نفي، وطلب من الرجل أن يقترح حلاً، وابتسم مضيفاً أنه “يسأل نيابةً عن صديق”.
أكدت هذه الواقعة أن الاعتلال الحكومي بات جلياً للجميع. وجاء رد الألمان عبر صناديق الاقتراع في 23 فبراير، مطالبين بتغييرات جذرية، فقد أدلى ثلث الناخبين بأصواتهم لصالح أحزاب سياسية متطرفة.
خلال الأسابيع الفوضوية التي تلت الانتخابات، زادت الأحزاب التقليدية من الارتباك السائد عبر اتخاذ قرارات دون مناقشتها مع المواطنين، فتخلت عن سياسة التقشف التي كانت راسخة في البلاد لفترة طويلة، بحجة إعادة التسلح وتحسين البنية التحتية المتدهورة. في خضم كل ذلك، وجد الألمان أنفسهم يتساءلون مجدداً: “من نحن؟ وإلى أين نتجه؟”.
رغم أن المستشار العتيد فريدريش ميرتس يبدو صاحب شخصية مسيطرة أكثر من شولتس، يُستبعد أن يقدر على توحيد الأطراف المختلفة. فميرتس، المحامي والمدير التنفيذي السابق في شركة “بلاك روك” يسافر على متن طائرة خاصة، وكان وصف لاجئي الحرب في أوكرانيا بأنهم “سياح اجتماعيون”. كما أنه، عشية الانتخابات، تعاون مع حزب “البديل من أجل ألمانيا” لتمرير قرار يدعو إلى تشديد إجراءات الهجرة، في خرق لمحظور سياسي ألماني طويل الأمد يمنع التعاون مع اليمين المتطرف.
التحالف الوحيد بين الأحزاب التقليدية المتاح اليوم يجمع الديمقراطيين المسيحيين بقيادة ميرتس والحزب الاشتراكي الديمقراطي المنتمي إلى يسار الوسط بزعامة شولتس. وإن فشلا في تجاوز خلافاتهما، فإن ذلك سيزيد من قوة الشعبويين اليمينيين، ما يهدد بقطيعة مع بقية أوروبا.
تضافرت كل هذه العوامل لتسبب أسوأ أزمة هوية تعيشها ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية. فبعد سنوات من السياسات الحذرة، أصبحت الطرق والجسور في حالة يُرثى لها، بينما تعثرت عملية التحول الرقمي وتراجع الإنتاج الصناعي.
تفاقمت هذه الأوضاع إثر أزمة الطاقة التي اندلعت بعد قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قطع إمدادات الغاز الرخيص، الذي تلته تهديدات الرئيس دونالد ترمب بزيادة الرسوم الجمركية، وانخفاض الطلب في الصين، وقد وضع ذلك النموذج الصناعي الألماني القائم على التصدير أمام تحديات كبرى. كانت النتيجة عامين من الانكماش الاقتصادي، مع توقعات قاتمة لعام 2025.
أيقظ تراجع مستوى المعيشة في ألمانيا المشاعر القومية العرقية المقلقة، ما أسهم في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة. فقد حلّ حزب “البديل من أجل ألمانيا” ثانياً في انتخابات الشهر الماضي، مضاعفاً حصته من الأصوات مقارنة بالانتخابات التي أُجريت قبل أربع سنوات. في المقابل، انخفضت نسبة تأييد الحزبين الوحيدين اللذين أوصلا مستشارين إلى السلطة منذ الحرب العالمية الثانية، إلى دون 45% لكليهما، في وقت كان الائتلاف المحافظ بقيادة الاتحاد الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي الديمقراطي يحصلان على أكثر من 70% من الأصوات قبل 20 عاماً، وما يقارب 90% قبل إعادة توحيد ألمانيا.
مع تراجع أحزاب الوسط التقليدية، قد يواجه ألمانيا مستقبلاً ابتلاء حكومات غير فعّالة، على غرار ائتلاف أولاف شولتس الذي عانى من انعدام الوحدة وغياب الإرادة السياسية لمعالجة التحديات الكبرى التي تواجه البلاد، من ارتفاع تكاليف المعاشات التقاعدية التي تتحملها الدولة، إلى ضعف التحصيل العلمي للطلاب. وإن لم تتوصل ألمانيا إلى حل في القريب العاجل، فإن ما سيأتي قد يزعزع استقرار القارة الأوروبية برمتها.
لكن المشكلة في ألمانيا لا تقتصر على قطارات تتأخر عن موعدها، أو بطء سرعة الإنترنت التي لا تصل إلى نصف سرعتها في الولايات المتحدة، أو حتى التحديات التي تواجهها شركة “فولكس واجن” في منافسة السيارات الكهربائية الصينية. فجوهر الأزمة يكمن في الهوية الوطنية غير المكتملة التي تؤثّر على كافة المعضلات التي تواجهها البلاد.
هشاشة الهوية الوطنية في ألمانيا تفتح لباب أمام التيارات المعادية للأجانب. وكانت زعيمة حزب البديل من أجل ألمانيا أليس فايدل هاجمت المهاجرين المسلمين في خطاب في البرلمان عام 2018. وقبل فترة قصيرة، وصفت ثقافة استذكار الهولوكوست في ألمانيا بأنها “عقيدة قائمة على الشعور بالذنب ” (وهو الموقف الذي دعمه إيلون ماسك خلال ظهور له في مؤتمر الحزب قبل الانتخابات).
وكان حزب “البديل من أجل ألمانيا” تصدر الانتخابات في إحدى الولايات الشرقية السابقة التابعة للنظام الشيوعي، وهي سابقة لحزب يميني متطرف منذ الحرب العالمية الثانية. وفي انتخابات فبراير، ضاعف الحزب عدد مقاعده في البرلمان الاتحادي.
كل ذلك لا ينفي أن ألمانيا لديها اقتصاد قوي، فهي تنتج سيارات ومواد كيميائية ومعدات طبية تبيعها حول العالم. بالتالي، هي قادرة بفضل مواردها الهندسية والبحثية من تحسين أوضاعها من خلال تعزيز الوحدة الداخلية والاستثمار في إمكانياتها الإبداعية الضخمة. لكن لتحقيق ذلك، على الألمان أن يفعلوا ما استعصى عليهم خلال ثمانية عقود خلت، وهو تقبل التغيير.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، انصب التركيز على تطهير الحياة المدنية والسياسية والاقتصادية من الفكر النازي، وتعزيز مكانة ألمانيا الغربية كحصن للديمقراطية والرأسمالية في وجه السوفييت. لذا، أُبقيت هوية الدول مبهمة عن قصد. فارتكزت بشكل عام إلى النجاح التجاري الذي يتعين تشارك ثماره من خلال واحد من أنظمة الرفاه الاجتماعي الأشمل عالمياً. وقد صاغ المستشار السابق لودفيغ إيرهارد الشعار الأصلي في الخمسينيات تحت عنوان “Wohlstand für Alle” (الازدهار للجميع). تتناقض هذه الروح الجماعية بشدة مع المبدأ السائد في الولايات المتحدة الذي يعطي الأولوية للحقوق الفردية والحريات.
اليوم، زال العقد الاجتماعي في ألمانيا إلى غير رجعة. فقرابة واحد من كل خمسة أشخاص يعيشون قرب حافة الفقر، مقارنة بواحد من كل سبعة قبل عقدين. وتُعد البلاد من بين الأسوأ في أوروبا من حيث تفاوت توزيع الثروة.
تحول نظام الرفاه الذي كان يوماً مصدر فخر وطني، إلى فشل مكلف. فقد تجاوز إجمالي الإنفاق الاجتماعي السنوي تريليون يورو (1.05 تريليون دولار)، أي ما يعادل ربع الناتج المحلي الإجمالي. وسترتفع هذه النفقات يقيناً لتمويل المعاشات التقاعدية والرعاية الصحية لملايين المتقاعدين من جيل طفرة المواليد، ما سيلقي بعبء أكبر على كاهل الأجيال الشابة. أمّا الحل، فكان مزيداً من إجراءات التقشف، ما يعني تشديد الخناق على الفئات الأضعف، وهي وصفة مؤكدة لمزيد من السخط الاجتماعي.
يمثل توماس فاسيلوفسكي مثالاً على عيوب النظام الألماني. إذ إن رب الأسرة الذي يعمل في مساعدة الشباب الذين يعانون من صعوبات في التعلم، أُصيب بمرض قلبي في 2007 حين كان أربعينياً، واعتُبر غير قادر على العمل. لكن إعانات الإعاقة التي يتلقاها لا تكفي لإعالة أسرته المؤلفة من خمسة أشخاص، ما يضطره للبحث دائماً عن العروض المخفضة في المتاجر واللجوء إلى بنوك الطعام في نهاية الشهر.
قال فاسيلوفسكي الذي استخدم وسائل التواصل الاجتماعي وظهر في البرامج الحوارية لمواجهة الصورة النمطية التي تصور المستفيدين من الرعاية الاجتماعية على أنهم كسالى ويعيشون حياة هنيئة على حساب دافعي الضرائب: “الدولة التي تخذل أضعف مواطنيها لا تصلح شيئاً، بل تنهار”.
السكن مصدر قلق آخر لا يُسلّط عليه ما يكفي من الضوء. فحوالي 49% فقط من الألمان يملكون منازلهم، وهي أدنى نسبة في الاتحاد الأوروبي، حيث يبلغ المتوسط 70% (مقارنة بحوالي ثلثي السكان في الولايات المتحدة). أما المستأجرون، فيواجهون نقصاً في المعروض من الوحدات السكنية ذات الأسعار المعقولة، وهي مشكلة تفاقمها قلة الاستثمارات في مشاريع الإسكان العامة الجديدة.
في مدن كبرى مثل برلين وفرانكفورت وميونيخ، تلتهم الإيجارات المرتفعة جزءاً كبيراً من الدخل، في ظل محدودية فرص زيادة الأجور، لا سيما في قطاعات مثل اللوجستيات والضيافة والتمريض حيث لم تواكب الأجور تغييرات التضخم.
غياب مسار لتملك العقارات، وهو ما كان من شأنه أن يخفف تداعيات تراجع دولة الرفاه، مشكلة من صنع اليد. إذ يضطر المشترون المحتملون لدفع مبالغ مسبقة من الضرائب والرسوم تضيف نحو 10% إلى سعر العقار، ما يشكل عقبة يكاد يستحيل على الأشخاص الذين يكافحون لتدبير أمورهم المالية تخطيها.
إذاً، ليس مفاجئاً أن يشعل افتتاح أي مأوى لطالبي اللجوء غضب الألمان الذين يشعرون أن الطبقة السياسية تخلت عنهم. فقد تصاعدت أعمال العنف وغيرها من الجرائم التي تستهدف اللاجئين بنسبة 75% لتبلغ نحو سبع جرائم يومياً في 2023، الذي أعقب وصول نحو مليون لاجئ أوكراني إلى ألمانيا بحثاً عن الأمان.
نجح حزب “البديل من أجل ألمانيا” في استغلال هذه المخاوف لتعزيز مكانته السياسية. فقد ركزت ملصقات حملته الانتخابية على أهمية تأمين الحدود وحماية الوطن. وفي خطوة دعائية قبل الانتخابات، وزع نشطاء الحزب صوراً لتذاكر طيران ذات اتجاه واحد على أسر مهاجرة.
تعاونت الأحزاب التقليدية الألمانية طوال عقود من أجل إنشاء سدّ منيع في وجه أحزاب اليمين المتطرف لمنع وصولها إلى سدة السلطة. إلا ان الجهود الرامية للتصدي إلى “حزب البديل من أجل ألمانيا” أسفرت عن تحالفات حكومية هشة وأثرت سلباً على الديمقراطية الألمانية .وقد أثارت دعوة ميرتس لتخفيف القيود على الديون من أجل زيادة الإنفاق على الدفاع الجدل، رغم الحاجة الماسة لذلك من أجل إنعاش الاقتصاد وتعزيز الأمن، وذلك بسبب تجاهل إرادة أكثر من 10 ملايين ناخب صوتوا لصالح حزب “البديل من أجل ألمانيا” الشهر الماضي.
رمت الجهود إلى الحفاظ على الوضع الراهن بدل تبني سياسات تتطلب دعماً واسعاً تساعد على قيادة البلاد نحو المستقبل. خاض ميرتس، الوجه الجديد في السياسة الألمانية، حملته على أساس برنامج اقتصادي يركز على الإنفاق وتخفيض الضرائب، بينما تدعو الأحزاب المائلة إلى اليسار مثل الاشتراكيين الديمقراطيين والخضر إلى الاستثمار المدعوم بالديون من أجل إنعاش النمو.
لكن ما الاقتصاد إلا جزء من المشكلة. فالسؤال الأهم الذي ينتظر إجابة هو: إلى أين تتجه ألمانيا؟ وكيف تعرّف نفسها؟ حتى لو تمكنت البلاد من التكيف مع التوترات بين الولايات المتحدة في عهد ترمب والصين، بينما تشن روسيا حرباً على مقربة من حدودها، فإن الانتقال من الركود إلى نمو متواضع لن يغير واقع ملايين الألمان الذين يرزحون تحت ضغوط هائلة.
مع تصاعد النزعة القومية العرقية التي راحت تملاً الفراغ الذي خلفته عقود من المحاولات الباهتة لبناء هوية وطنية، لا يبدو أن الحل سيأتي من الطبقة السياسية. فحين سعى ميرتس لفرض تصويت على اقتراحه لتشديد القيود على الهجرة في أواخر يناير، تبادل النواب الاتهامات بالكذب، فيما شبّهت وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك من حزب الخضر المشهد الفوضوي بـ”رياض الأطفال”. يبدو أن السياسيين الألمان ما يزالون بحاجة إلى كثير من النضج. (asharqbusiness)