حرب ألمانيا من أجل أوروبا

طوال عشر سنوات أمضتها المستشارة الألمانية، أنغيلا مركل، في منصبها، نأت بلدها عن أي تدخل عسكري يعتد به، ولو حاز تفويضاً أممياً وإجماع جامعة الدول العربية على نحو ما كانت الحال في ليبيا في 2011. لكنها اليوم، قررت إرسال قوات الى سورية. والحق يقال، تشارك المستشارة في طراز جديد من حرب عالمية. ولطالما طعنت في جدوى التدخلات العسكرية. ولم تكن وراء موقفها هذا دواع أيديولوجية، (هي أيدت الحرب على العراق في 2003) بل دواع براغماتية (عملانية). فهي كانت لتخسر تأييد التيار السلمي الغالب على المجتمع الألماني، ووظيفتها تالياً.

لكن، ما الذي حمل المستشارة على تغيير رأيها في سورية؟ ليس تأييد 57 في المئة من الألمان التدخل ضد «داعش» فحسب وراء قرار مركل. فهي اضطرت الى تغيير موقفها في الشرق الأوسط لتساهم في الحفاظ على وحدة أوروبا. وتدرك المستشارة الألمانية أن الحرب في سورية هي نزاع من نوع جديد. ففيها لا تتواجه فحسب أحلاف ودول، بل ثلاث رؤى الى النظام العالمي: النظام العالمي الاستبدادي، ممثلاً بسوريا بشار الأسد وحليفه فلاديمير بوتين الروسي الذي يقدم الاستقرار على حقوق الإنسان والديموقراطية، والنظام العالمي الليبرالي مجسداً بغرب أوروبا وأميركا، وهو يعلي شأن حقوق الإنسان والديموقراطية، ونظام «داعش» الذي يسعى الى إطاحة النظامين هذين واستبدالهما بخلافة عالمية.

وهذا الصدام بين ثلاث رؤى قد يكون تحدياً قاتلاً للوحدة الأوروبية. ويبدو أن مركل تعتقد أن تغيير مسار بلادها في الشرق الأوسط يحمي الآصرة الأوروبية. فهي إذ ترسل طائرات استطلاع وطائرات إمداد بالوقود الى سورية وفرقاطة الى المتوسط، تكافح لإنقاذ لحمة التضامن الأوروبية أكثر مما تسعى الى تدمير «داعش». فتزامن أزمة اليورو ودفق اللاجئين وهجمات باريس، هدّد لحمة الاتحاد السياسية تهديداً لا نظير له. فالقيم الجامعة المشتركة لم تصمد حين امتحنت.

وأماطت أزمة اليورو اللثام عن صدام ثقافات اقتصادية في القارة الأوروبية، وسلّطت أزمة اللاجئــين الضوء على انقسام الاتحاد: أفكار متباينة ومختلفة عن التسامح. فدول شرق أوروبا أعلنت من غير لبس أنها لن تقبل لاجئين مسلمين ولا حرية تنقلهم في أوروبا. وقال رئيس وزراء المجر، فيكتور أوربن، أنه يذود عن أوروبا المســيحية. وأول قرارات الحكومة البولندية اليمينة قضى بإزالة العلم الأوروبي من قاعة المؤتمرات الصحافية – وهذه إشارة واضحة الى أن البلد سينأى عن الاتحاد الأوروبي إذا لم تترك ألمــانيا ســياسة الأبواب المفتوحة أمام اللاجئين.

والى هجمات باريس، اقتصرت هذه الرؤى المعادية للاتحاد الأوروبي والمناوئة للأجانب على اليمين المتطرف. وشأن شرق أوروبا، ترى مارين لوبن، زعيمة «الجبهة الوطنية» اليمينية المتطرفة في فرنسا، أن تفكيك الاتحاد الأوروبي ضرورة لا غنى عنها بدءاً من فكرة شنغن والسفر من غير حدود. وهي تشارك رؤية جنوب أوروبية الى أن العملة الموحدة هي في مثابة مشد ضيق يخنق الاقتصادات الوطنية ويقطع أنفاسها. وحاز حزب لوبن في الجولة الأولى من انتخابات المناطق، 30 في المئة من مجمل الأصوات الفرنسية. وإذا واصلت التقدم، قد تفوز بالرئاسة الفرنسية. وشيئاً فشيئاً ينفرط عقد الاتحاد حين تطوى الشراكة الفرنسية – الألمانية. ويعم أوروبا جو من الخوف والافتقار الى الاستقرار، وقد يقرر الأوروبيون الرد على ألمانيا والاقتصاص منها. فهي الرأس المدبر الذي فرض هيمنته الاقتصادية والثقافية على أوروبا. وكثر يصلون ألمانيا ضغينة ونقمة. وهذا ما تخشاه برلين، لذا، انعطفت الى سورية. وترمي مركل الى إظهار أن مركز أوروبا السياسي، وهو يجمع فرنسا الى ألمانيا وبريطانيا، لا يزال قادراً على التنسيق والإجماع على قرار والتضامن في وجه ما يهدّد حرية الأوروبيين وأمنهم. فالرئيس الفرنسي لم يلجأ الى البند الخامس «الأطلسي» لطلب المساعدة إثر هجمات باريس، بل الى بند التضامن في الاتفاق الأوروبي. وهو أول رئيس أوروبي يبادر الى ذلك. وتجبه مركل تحدّي إثبات أن التضامن الأوروبي، وهو ركن الاتحاد الأوروبي، ليس وعداً فارغاً.

 

 

جوشن بيتنر * محرر سياسي في «دي زايت» الألمانية، عن «نيويورك تايمز» الأميركية، 10/12/2015، إعداد منال نحاس.[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها