ألمانيا و الاندماج الأوروبي المتعثر
تنحسر أشكال التضامن مع اللاجئين الفارين من الحرب والاضطهاد في ألمانيا، وبدأت مشاعر القلق تستعر في نفوس الأوروبيين مخافة أن يطيح الأجانب الغرباء نموذج دولة الرعاية الأوروبي وثقافة أوروبا التاريخية.
وقبل حادثة كولون، كانت شكوك غالبية الألمان تدور حول قدرة بلادهم على دمج مئات الآلاف من السوريين والأفغان وغيرهم. واليوم، تُخرج صورة المستشارة الألمانية، أنغيلا مركل، – وهي كانت، إلى وقت قريب، رمز المرونة واعتداد الاتحاد الأوروبي بنفسه، على أنها صنو [ميخائيل] غورباتشوف، أي تجمع النبل إلى السذاجة. فهي ترفع لواء «يمكننا فعل ذلك»، فتعرّض أوروبا للخطر.
لكن أزمة اللاجئين المتدفقين على ألمانيا ليست، فحسب، ما يجعل برلين على قاب قوسين من انهيار عصبي (والتخلي عن الاتحاد الأوروبي على صورته الحالية). فالمشكلة الأخرى المقلقة مصدرها الشراكة الأوروبية. وتجد برلين نفسها مطوقة أو محاصرة: فإلى الجنوب تعارض الحكومات اليونانية، والإسبانية، والبرتغالية، والإيطالية، سياسة التقشف؛ وإلى الشرق تناوئ الحكومات سياسة استيعاب اللاجئين في دول أوروبا الشرقية. ويتحدى الجنوب السياسات والقواعد المالية الألمانية، في وقت تتحدى أوروبا الوسطى النموذج الألماني للمجتمع المشرع الأبواب. وفاقمت أزمة اللاجئين الارتياب بين شطري أوروبا، الشرقي والغربي. واتهم الألمان أوروبا الوسطى بعدم التضامن والافتقار إلى التعاطف. فيما اتهمت دول وسط أوروبا ألمانيا بالسعي إلى «إمبريالية أخلاق». وسلطت الأزمة هذه الضوء على توترات مضمرة في الشراكة الأوروبية.
وأوجه الشبه كثيرة بين استياء وسط أوروبا من ألمانيا واستياء أبناء الجيل الثاني من الأتراك في ألمانيا اليوم. فعلى خلاف الجيل الأول من المهاجرين الذين كانوا يتوقون لإثبات دورهم في الدولة المضيفة، يشعر الجيل الثاني بالمهانة بسبب الاضطرار إلى «تشرّب» قيم الآخرين. وكثر من أبناء هذا الجيل اندمجوا في المجتمع الألماني وتخرجوا في مدارسه. ولكنهم يجبهون معضلات هوية مركبة. ولا يحلم الجيل هذا بالعودة إلى ماضيه العائلي أو أصوله القومية. وشباب هذا الجيل محبطون فهم يشعرون أنهم مواطنون من الدرجة الثانية.
وفي أوروبا الوسطى، كان شاغل الجيل الأول من القادة والحكومات، في مرحلة ما بعد الشيوعية، إثبات أنهم مواطنون أوروبيون أكثر من أقرانهم الغربيين – أي أكثر ليبرالية منهم، وأكثر ولاءً للاتحاد الأوروبي، وأكثر استعداداً للتضحية بالمصالح القومية من أجل القيم الأوروبية. وإلى وقت قريب، كانت ثقة مواطني أوروبا الوسطى ببروكسيل تفوق ثقتهم بحكوماتهم. ولكن الأمور تغيرت، إذ تشير استطلاعات الرأي العام الأخيرة إلى أنّ كثيرين من البولنديين، حتّى ممن يعارضون هيمنة الحكومة اليمينية الجديدة على المحكمة الدستورية يرفضون فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على بلادهم. وخطر التوجهات المعادية لليبرالية في أوروبا الوسطى لا يستخف به. ولا تقتصر المشكلة على انزعاج برلين من بروز حكومات غير ليبرالية في المنطقة. فما هو على المحك هو مستقبل الاتحاد الأوروبي. وتتفاقم الهوة بين ألمانيا وأوروبا الوسطى يوماً بعد يوماً. فكلاهما يشعر بخيبة أمل عميقة متبادلة.وفي ربع القرن الأخير، كانت ألمانيا أكثر الدعاة حماسة إلى توسيع الاتحاد الأوروبي نحو الشرق. فهي أكبر مستثمر وشريك تجاري في المنطقة. إذ تفوق معدلات التجارة الألمانية مع بولندا المعدلات التجارية مع روسيا.
لكن هذه المصالح المشتركة قد لا تحول دون فتور الحماسة الألمانية إزاء الاتحاد الأوروبي على صورته الحالية. وفي مواجهة التحدي المزدوج، أي دمج اللاجئين وإعادة دمج الشرق، قد تميل برلين إلى اتحاد أوروبي مزدوج (تقسيم الاتحاد الأوروبي إلى فرعين كل منهما يجمع دول متقاربة اقتصادياً)- وهي خطوة من شأنها أن تنهي مشروع التوحيد الأوروبي ما بعد الحرب. وخلص مواطنو أوروبا الوسطى، إثر انهيار الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا، إلى أنه في غياب الحرب، يبدأ انهيار الإمبراطورية من الأطراف. ولا يكتمل الانهيار إلا عندما يثور المركز. وكان قرار روسيا الخروج من الاتحاد السوفياتي (لا طموح جمهوريات البلطيق إلى «الاستقلال») وراء دفن الاتحاد السوفياتي وانفراط عقده. وقد يكون تغيّر موقف ألمانيا من أوروبا الوسطى القشة التي تقصم ظهر الاتحاد الأوروبي كما نعرفه.
إيفان كراستيف – رئيس مركز أبحاث في صوفيا – بلغاريا، عن «نيويورك تايمز» الأميركية (صحيفة الحياة)[ads3]