عمر سوريا القصير
تخوّفات كثيرة اليوم حول مستقبل سورية تتكئ على النظر إليها كوطن قائم بالفعل، بينما تتكئ أمنيات البعض على أنها وطن قائم بالقوة (بالتعبير الفلسفي)، بدلالة الأشهر الأولى للثورة. ثمة انقطاع زمني شاسع، وفق هذه السردية، فسورية المعاصرة وجدت مع الاستعمار الفرنسي، وبدأت منحى الاستقرار النسبي في العقد الأخير له، ثم كان لها وجود مستقل انتهى عملياً بالوحدة مع مصر، قبل مجيء انقلاب البعث الذي هو انقلاب على الكيان نفسه.
من هذه الزاوية، ربما أخطأت غالبية متابعي الشأن السوري، حين عدّت انقلاب البعث تحولاً في شكل السلطة فحسب، أو حتى مشروعاً أيديولوجياً قومياً، عدم الاعتراف بالكيان السوري أحد آثاره فحسب. في حين لا يمكن تنزيه الأيديولوجيا البعثية عن كونها تحمل في طياتها أصلاً فكرة الانقلاب على سورية، إن لم تكن هذه الفكرة هي المحرض الأكبر على الفعل السياسي. ذلك لا يدخل في إطار «المؤامرة» الفكرية، المدعومة عسكرياً في ما بعد، بقدر ما يتّجه إلى الكوادر القومية الفاعلة ومجمل سياساتها التي انكشفت مع تسلّم السلطة في سورية والعراق.
إذاً، لم تكن فكرة ضرب الدولة نزوعاً استبدادياً أسدياً، أو صدامياً في العراق، بالمعنى الشخصي، مع الإقرار بأن الاستبداد لا بد أن يتغذى من الدولة على نحو أو آخر. إلا أننا هنا إزاء نوع من الاستبداد لم يكن ليذهب في اتجاه الديكتاتورية الوطنية على المثل الغربي، أو حتى على المثل البورقيبي، لأن الديكتاتورية توجّه اهتمامها إلى السيطرة على الدولة بأكثر مما تفعل تجاه هدمها، أو إعاقة تشكلها.
التمييز سيكون ضرورياً بين مؤسسات الدولة، أو مؤسسات الحكم، ومفهوم الدولة ذاته، إذ لا مناص من مؤسسات الحد الأدنى، وربما الأعلى أحياناً، في نظام الاستبداد. في المقابل، يعمل النظام في شكل منهجي متواصل على ضرب مفهوم الدولة، تحديداً على ضرب الحامل الاجتماعي المشترك للدولة الذي تختزله الأدبيات السياسية بتعبير «الأمة». أيضاً، ربما نقع بشيء من الخطأ عندما نعزو ضرب الحامل الاجتماعي فقط إلى التكنيك الأمني المستخدم في الاستبداد، والذي ينص على تحطيم الأواصر الاجتماعية لغايات أمنية محضة. تصوُّر كهذا ينطلق من عزل الاستبداد نفسه عن غايات مبيتة ضد الدولة ووجودها، وينزل من قيمة الغاية لتصبح وسيلة محضة.
في سورية، يمكن القول أن الشعار الذي صار معروفاً جداً «الأسد أو نحرق البلد» أفضل معبّر عن بنية النظام، لا في أزمته وقت اندلاع الثورة، وإنما في تأسيس نسخته الأنقى مع انقلاب حافظ الأسد على الخلطة المتباينة من زملائه البعثيين. وعندما يوضع المشروع على كاهل قوى قادرة على الشروع به، فذلك لا بد أن يلحظ مجمل القوى الخاملة سياسياً آنذاك، ومن مختلف المكونات الاجتماعية، قبل أن يظهر محمولاً على جزء أو أجزاء منها لاحقاً.
لقد كانت فلسفة البعث القومية تنص تحديداً على مواجهة الممكن باللاممكن، على مواجهة الوطن الناشئ بوطن لن يتحقق، ويصعب جداً الزعم بأن إصرار حافظ الأسد على بعثيته كان نوعاً من العبث السياسي. الأقرب إلى الواقع رده إلى منهجية واعية جداً لغاياتها التي تتلخص بضرب الوطن الممكن. والحق أنها ضربة مزدوجة، وفي الصميم، تظهر آثارها الآن. فهي ساهمت في خلق الوهم القومي، في زمن كانت فيه الأيديولوجيا القومية قد أدت دورها التاريخي، وراح العالم يتّجه إلى الفصل بين القومية والأمة، فيفصل بين الأولى والدولة لمصلحة الدولة التي أصبحت هي المتعين النهائي لفكرة الأمة. في الوقت نفسه، كان القضاء يتم على ممكنات الدولة في ما بعد، لنجد أنفسنا بعد انقضاء المرحلة الأسدية غير قادرين على إنشاء الدولة الوطنية المنشودة.
سيكون نوعاً من الانفصال عن الواقع الآن، القول بوجود حامل اجتماعي للدولة السورية. دولة المواطنة المنشودة لا وجود لها حقاً بالمعنى الاجتماعي الذي يتلخص بعقد اجتماعي واضح، أو حتى بالرغبة في وجود هذا العقد، أي لا وجود لها على الأرجح سوى بـ «القوة» لدى «نخبة» من السوريين غير قادرة على إيجادها بالفعل. هي وضعية مشابهة تماماً للجوار اللبناني والعراقي، وربما إلى حد ما اليمني، وهي وضعية تستجلب الخارج بقوة بسبب عجز الداخل عن تأسيس الدولة المطابقة لاجتماعه، أو بسبب عجزه عن الاجتماع أصلاً. وتدلل التجارب على أن هذا النوع من العجز مزمن، لأنه ليس من السهل ترميم الإطار الوطني الهش بعد تمزيقه، بل يُلاحظ انتقاله بالعدوى، وفقدان النموذج اللبناني فرادته كمضرب للمثل.
التقدم نحو الخروج من الحلقة المفرغة السابقة لا بد أن يمر بسقوط النظام المؤسس لها، لكنه ليس شرطاً كافياً كما كان يُظن قبل خمس سنوات، لأن الشراكات الداخلية – الخارجية أقوى اليوم من احتمالات الشراكة الداخلية، وقد تزداد وطأتها مع تسوية تؤسس لتقاسم النفوذ في الأمد المنظور. وإذا وصِف عمر الاستقلال القصير بأنه أيضاً فترة الحيرة بين التوجه إلى العراق والتوجه إلى مصر، فربما يشهد «الاستقلال» الثاني انقسامات أكبر وأشدّ صراحة من الأول، بخاصة مع المتطلبات الباهظة لإعادة الإعمار.
الحالة السورية ليست الوحيدة في هذا السياق، بل يمكن الحديث عن سياق من التجارب المتشابهة، في لبنان والعراق واليمن والصومال وأفغانستان، وربما العديد من دول المنطقة مرشح للانضمام إلى القافلة. ويلاحظ في هذه التجارب جميعاً، فشل مشروع الدولة، وصولاً إلى انهيار مقوماته المجتمعية، على رغم الحفاظ على الإطار الجغرافي والسيادي لها. مشكلة الحلول المقترحة كانت دائماً في البحث عن مخرج يتيح تقاسم السلطة، وهذا بدوره يأتي في مثابة «خصخصة» للدولة بدل «تأميمها»، الأمر الذي يختزل الدولة إلى مصدر اقتصادي لا إلى تراكم مجتمعي.
في الحالة السورية خصوصاً، ربما آن لنا الاعتراف بأن عمر سورية قصير جداً بالقياس إلى زمن تدميرها المنهجي، بمعنى افتقارنا الشديد إلى منجز نستند إليه. أيضاً ما يُتداول في جنيف عن تقرير السوريين نظامهم السياسي لا يعدو كونه شعاراً، فإلى الآن لا يوجد بحث جاد عن النظام السياسي المطابق للمجتمع السوري، النظام الذي ينطوي على ممكنات الدولة، لا النظام الذي يؤجل إعلان انهيارها الكلي.
عمر قدور – الحياة[ads3]
لم يتصوّر حافظ الأسد ووريثه بشار أن يأتي يوما يسلّمان السلطة للشعب السوري ، بل لم يتخيلا قط مع مرتزقتها ومنتفعيهم أن في سوريا شعبا سييثور عليهم ويحطّم قوتهم ويكسر أسوار الطغيان ويزيل أصنامهم بل ويحرّر 80 % من أراضي سوريا التي جعلوها مزرعة لهم وعائلتهم ويعطون فتات فضلاتهم إلى مرتزقتهم .
كان دافع آل الأسد لليقين بتلك الحقائق أدائهم لأدوار الخيانة الوطنية والعمالة لكل القوى الخارجية ( أمريكا ، روسيا ، اسرائيل ، ايران ، …) بل ولكل من يشتري سوريا وجغرافيتها وتاريخها وحضارتها بل وشعبها الذي اعتبروه كعبيد طيلة 45 عاما .
كان حافظ وبشار الأسد يفرضان تعليماتهما بإصدار دساتير وقوانين ومراسيم وقرارات وإحداث وإلغاء وزارات ومؤسسات وإدارات شكلية ويبرمان اتفاقيات ومعاهدات دولية لتدمير سوريا من قصرهما ، ويتولى بصمجية السلطة مما يسمى (مجلس الشعب والوزراء وقيادة حزب البعث والجبهة الوطنية التقدمية ) التوقيع دون قراءة أو فهم شيء ، لأن أدوار العبيد تنحصر بالتنفيذ من مواقع أسفل الهرم ، والامتناع عن الكلام والنقاش والحوار وإبداء الرأي مقابل الحصول على الطعام وبعض مستلزمات الحياة الأخرى وأحيانا ثروات منهوبة من أموال الشعب المفقر .
منذ 5 سنوات تم قلب الهرم ، وداس ثوار سوريا بأقدامهم سلطة آل الأسد وانتزعوا منها هيبة الإرهاب الأمني والجيش الطائفيين عبر مظاهراتهم أولا ، ثم بالعمل المسلح ثانيا ، وتحقّق اسقاط التسلط والطغيان بفعل بنادقهم ، ولم تستطع سلطة آل الأسد بدعم كافة قوى العالم أن تنهي شعلة ثورة شعب سوريا خلال السنوات الخمس الماضية ، مع أنها استحضرت جيوش روسيا وايران فارس وشيعتها من العالم ومرتزقة قومجية لبنان وفلسطين وغيرهم ، وتغطية بالخفاء سياسية ولوجستية من أمريكا واسرائيل وقوى أخرى لإبقاء هرم السلطة كما اعتادت عليه منذ 5 عقود .
لقد تم قلب هرم السلطة من قبل ثوار الشعب السوري ، وفرض على قوى العالم الكبرى سيما ( أمريكا ، أوربا الغربية ، روسيا ) الإذعان لقبول هرم السلطة المقلوب في سوريا المستقبل بعد فشلهما عسكريا وسياسيا في انقاذ هرم آل الأسد العمودي ، ولم تكتف تلك القوى العالمية بالهرم المقلوب لنظام الحكم في سوريا كما هو في سائر الدول المتحضرة بالعالم ( باستثناء روسيا ، ايران وشيعتها ، كوريا الشمالية ، وبلدان على اشكالها ) بل وضعت سلطة آل الأسد في حقيبة يحملها (جون كيري) يساوم عليها على طاولة (فلاديمير بوتين ) وبالتأكيد لا قيمة لمحتوى تلك الحقيبة كونها مليئة بالدماء والفساد والأموال المنهوبة سوى لدى بوتين شبيه بشار ، فلياخذ تلك الحقيبة ويضيفها للحقائب التي تاجر بها مع الغرب التي كانت تحوي (ميلوسوفيش) يوغوسلافيا وأمثاله .
لقد انتهت مهمتكم يا آل الأسد مع مرتزقتكم في سوريا ، وبدأت مفاوضات تسليم السلطة ، عبر آليات حكم الهرم المقلوب الذي يفرض حكم الشعب بقمة الهرم مع مؤسساته المنتخبة والتمثيلية ومكوناته الوطنية الصادقة والمنتمية لبلدها وحضارتها وجغرافيتها وتاريخها .