حالة من الرحيل السوري !

يمتد درب آلام الرحيل السوري الاستثنائي إلى خمسة أعوام مضت، راح فيها مئات آلاف السوريين، أو ما يقارب مليون شخص في رحلات موت، تعددت وتنوعت لدرجة تجاوزت فيها مسارات الرحيل البشري المعروف والشائع. فمن رحيل تحت التعذيب وثّقته صور وأسماء لعشرات آلاف الأشخاص الذين قتلتهم آلة مخابرات الأسد، إلى موت بالسلاح الكيماوي، ومثله قتل بالصواريخ والبراميل المتفجرة، التي ألقيت على مدنيين كانوا في بيوتهم آمنين، وقتل في معارك على أيدي الإرهابيين من قوات نظام الأسد وحلفائه من إيرانيين وروس، وميليشيات طائفية جاءت من لبنان والعراق وأفغانستان، وعصابات «داعش» وأخواته من متطرفي «القاعدة»، إلى موت سوريين غرقوا في البحر في مسارات الهجرة بحثا عن ملاذ آمن، بعد أن هربوا من عسف نظام الإجرام.

وسط رحلات الموت الغريبة، كانت تتواصل رحلات موت عادية، يموت فيها سوريون بصورة شبه اعتيادية، لمرض أو حادث طارئ، أو لأن أعمارهم انتهت. أحد هؤلاء كان حسين العودات، الذي توفي قبل أيام في دمشق، وسط من تبقى من عائلته، ومن بقي من أصدقائه فيها.

ولإن مات الرجل بصورة «عادية»، فإن ما أحاط بوفاته، حوّل الموت إلى حالة استثنائية، ليس من خلال ما تركه الموت في وسط السوريين فحسب، بل لأن الرجل كان استثناء خفيا في الحياة السورية، وأحد البارزين المستورين في نخبتها.

ففي الأيام الأخيرة، انشغلت صفحات وسائل التواصل الاجتماعي والصحافة العربية بوفاة الرجل، ونعاه عشرات من المثقفين ورجال الفكر والكتّاب والفنانين والناشطين، وكتبوا عن الرجل وذكرياتهم معه في رحلات امتدت عشرات السنين من مراحل الحياة السورية والعربية، وثناياها السياسية والثقافية والاجتماعية، في تعبيرات ظاهرة لدور الرجل الذي تواصل في تلك المجالات من حياة سورية، تناقضت صورها ما بين الاستقرار الظاهر والانفلات الخطر على نحو ما ظهرت الحالة في السنوات الخمس الأخيرة.

استثنائية الرجل في حياته، وفي نتاجه ودوره كانت كثيرة. فقد ولد حسين العودات عام 1937 في قرية أم المياذن من قرى درعا لعائلة فلاحية بسيطة، وشق طريقه في التعليم بكل إصرار ودأب، ليتخرج في دار المعلمين في دمشق، ويتابع في جامعتها ليحصل على ليسانس في الجغرافيا وآخر في اللغة الفرنسية، ثم زاد إليها لاحقا دبلوما في الإعلام.

ووسط تلك الرحلة من التعليم، اشتغل مدرسا في درعا منتصف الخمسينات قبل أن يصبح مديرا للتربية فيها، ممهدا للنقلة الأخرى في حياته، حين جاء إلى دمشق، وأسس الوكالة العربية السورية للأنباء (سانا) منتصف الستينات، ليغرق بعدها في عالم الصحافة والثقافة إنتاجا وإدارة وتفكيرا، وفيها جميعا ترك لنا نتاجا وتجارب مميزة، تتجاوز في أثرها التجربة السورية إلى عمقها العربي الأبعد.

والاستثنائية في حياة العودات تجاوزت انتقاله من العائلة البسيطة إلى وسط النخبة الفاعلة والمؤثرة، فامتدت إلى استثنائية هي الأشد والأكثر أهمية وخطورة بتوسيع دائرة اهتمامه بالتركيز على الشأن السياسي الخارج عن عباءة السلطة، وكان انفجاره الواسع في ذلك في مرحلة ربيع دمشق، حيث كان حسين العودات أحد أبرز رموزها، سواء بما أصدرته من بيانات ووثائق، وما عقدته من منتديات، وما شهدته من اندفاع إعلامي للتعبير عن الموقف والرأي الحر في سوريا، أو بما شهدته من حراك ثقافي اجتماعي سياسي، بدأ مع لجان إحياء المجتمع المدني 2001، وامتد إلى تشكيل إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي 2005 بوصفه أهم تحالف للمعارضة السورية في وجه نظام الأسد، وفيها جميعا لعب الرجل دورا مهما.

وإذ مهدت تجربة ربيع دمشق، بما فيها من حراك ومطالب لتغيير سوريا وحياة السوريين، فقد جاءت تظاهرات واحتجاجات (مارس) آذار 2011، لتضع النخبة السورية أمام تحديات التغيير، وكان حسين العودات بين أوائل من وقفوا إلى جانب الثورة وناصروها، ليس بسبب انسجام خط الثورة في التغيير السلمي مع طروحات ربيع دمشق ومجرياته فقط، بل بوصفها السياق العملي والمطلوب للتغيير، فانصب جهده في صف الثورة في القول والكتابة والمشاركة بفعالياتها، قبل أن ينخرط ضمن حلقة محدودة الأشخاص لتوحيد المعارضة في تحالف يساهم في قيادة الثورة نحو تحقيق أهدافها، وإخراج السوريين من دائرة الدم، وسوريا من خوف الخراب، وفي هذا كان جهده عندما شارك في هيئة التنسيق الوطنية 2011، وفي مؤتمر المعارضة السورية بالقاهرة 2015.

كان حسين العودات، أحد أوائل المعارضين الذين أكدوا سلمية الثورة، ورفضوا عسكرتها، وأحد دعاة الحل السياسي، وأحد المصرين على البقاء في دمشق، أيًا تكن فاتورة البقاء، وعندما كان يغادرها لسبب صحي أو لمهمة سياسية، يضيق بطول الإقامة خارجها، لعله في ذلك كان يخاف انتصار ثورة الحرية والكرامة وهو غائب عن دمشق.

فايز سارة – الشرق الأوسط[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

‫6 تعليقات

  1. شكراً للأستاذ فايز سارة ، على تعريفه بالرجل لأننا ظننا بأنه موظف حكومي ومنتمي لهيئة التنسيق والتي لا تملك قرارها وكانت تسيير بالكنترول من اجهزة الاستخبارات ، عزائنا لعائلته.

  2. bla bla bla?, صف حكي لا بيقدم ولا بيأخر , نرجو للفقد الرحمة و لعائلته السلوان.

  3. “هل تعلم ما هو الجيد بشأن الحقيقة؟ أنّ الجميع يعلم ما هي، مهما طال الزمن الذي استطاعوا فيه العيش من دونها. لا أحد ينسى الحقيقة، فرانك، لكنّهم يصبحون أكثر براعة في الكذب فقط”. ما قالته آن ويلر لزوجها في رواية “الشارع الثوري”، للأميركي ريتشارد يايتس، يصح كذلك لوصف ما يحصل في سورية. فثمة شيء نتن يحدث أمامنا بعد خمس سنوات من ثورةٍ حصيلتها مقتل نحو نصف مليون وتهجير عشرة ملايين. هي ثورة تآمرت عليها كلّ دول العالم تقريبا. هذا نعرفه. لكن، ما لم يعلن أخيراً أن التآمر على الثورة تكلّل بمشاركة المعارضين أنفسهم فيه، بعجرهم وبجرهم، فقد نجح الأميركيون والإيرانيون، وبمساعدة الطيران الروسي السفّاح، بفرض “هدنةٍ” قبلتها المعارضة السياسية ضدّ كل منطق ثوري عقلاني، كان يجزم أن الأمر سيكون كارثياً. وبالفعل، أدّى ذلك في المحصّلة النهائية لاستحداث – النسخة المحدثة والناجحة من الضوابط التي حوّلت المعارضة إلى قوات “صحوات” سوريّة. أتى ذلك بعد محاولات عديدة فاشلة للأميركيين في تشكيل نواة لمليشياتٍ أو جيوشٍ تقاتل “داعش” فقط من دون نظام الأسد من مرتزقة عرب سنة. لكن، هذه المرة، اشتملت “الصحوات السورية”، في نسختها الأرقى، على جيوشٍ من المعارضين السياسيين والناشطين الإعلاميين السوريين والعرب، علمانيين وإسلاميين (“سنُّة” على فكرة)، بالإضافة إلى مقاتلين (سنّة أيضاً) من فصائل الجيش الحرّ وفصائل إسلاميّة صنّفت “معتدلة”، بعد تأديبها وتأدّبها، وجدوا أنفسهم في الخندق نفسه مع قاتلهم (ما زال يقتل) وحلفائه المجرمين. وباتوا يشاركونه، مسرورين الآن، بقتال كل من يخالف تحالف أميركا وإيران وروسيا وحزب الله، تحت راية “قتال داعش”.
    ففي سورية، المستعمرة الإيرانية اليوم، هناك فرق سياسي شاسع بين “داعش”، التنظيم المعروف الذي يعمل بلا خجل أو وجل لتأسيس “خلافةٍ سنيّة”، و”داعش” كما يعنيه واقعيّاً تحالف نظام الأسد وأميركا وإيران. إّن تسمية “داعش” عندما يستعملها هؤلاء تعني كلّ من يقف ضدّهم، وتشمل عمليّاً كل العرب السنة الذين يواجهونهم، مهما كانت هويّتهم الأيديولوجية. لكن هذا الفرق السياسي الحادّ والمفهومي يبدو أمراً غير ذي صلة بالنسبة للخطاب السائد للمعارضة السورية التي تلهث للدخول إلى “سورية الجديدة” التي يريدها باراك أوباما وعلي خامنئي بأيّ ثمن.

  4. لا يمكن أن يعني هذا كله إلا أمراً واحداً: أن “التطمينات” التي أتت لنظام الأسد وحلفائه لم تكن فقط “غير مباشرة”، بل كانت، على الأرجح الأعمّ، مباشرة، أي تمّ نقاشها بالتفصيل بين الأطراف المقاتلة وداعميها بينهم وحلفاء الأسد. وليس أبدًا مصادفة أن يأتي ذلك بموازاة وفد “معارض” يدّعي “تمثيل الثورة”، قَبِل من “عندياته” نقاطاً قدّمها مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان دي مستورا، سمسار الاستعمار الأميركي-الإيراني في سورية وموفد المنبر المسمى “الأمم المتحِدة” (علينا نحن العرب)، والذي قال، في وثيقته، ببقاء نظام الأسد وإلى ما شاء الله. ومن يعلم، قد نرى على الأرجح حافظاً الصغير حاكماً للبلاد بعد عقدين أو ثلاثة، ذلك أنّ عباقرة السياسة في المعارضة السورية أثبتوا أنهم يحترمون “المجتمع الدولي” فوق ما يتوقعه هو نفسه منهم. فهم، عكس نظام الأسد، لا يخونون العهود

  5. الطامة الكبرى، في ذلك كله، درجة التهافت السياسي الذي وصل إليه منظرون في المعارضة السورية في تشديدهم على أولوية الحرب ضد تنظيم “داعش” على الحرب ضد النظام وايران، فبما أنّ داعش “معادِلة” للنظام بحسبهم، فلا مشكلة أن نتخلّص من الأول حتى لو كنا في ذلك حلفاء موضوعيين أو ذاتيين ربما للنظام. لكن، نعود دائماً إلى حقيقة آن ويلر وزوجها فرانك. إنّ تنظيم داعش المجنون والإرهابي الذي لا يمكن أن يقبل بوجوده أكثرية السوريين، بعدما أرادوا سقوط نظام الأسد، لم يقتل سوى 1% مما قتله منهم نظام الأسد والإيرانيون والروس. إذ ذاك، تصبح الوظيفة السياسيّة للمظاهرات اليومية التي تصرخ، هذه الأيام، شعارات ضد الأسد، والتي تنظمها التنسيقيات المحليّة السورية في المناطق الموجودة تحت سيطرة المعارضة (وليس تحت سيطرة داعش)، توفر غطاءً يومياً فلكلورياً لتمرير الاتفاق القائم مع الأسد، وهو اتفاق مضاد للثورة بأهازيج الثورة نفسها. فنحن لم نعد هنا في نطاق الثورة، بل في مملكة شبح الثورة المتلاشية. جثّة الثورة التي تتحلّل وتتفسخ بسرعة، وأوّل ضحاياها كانت مدينة تدمر التي دُمِّرت عن بكرة أبيها، وسط صمت المعارضة المدويّ، وذلك في “تحريرٍ” قالت عنه قناة “سي إن إن” الأميركية أنه “يوم مجيد للإنسانية”.

  6. ولنذكر بالمناسبة، هنا، أنّ بعض شيوخ طرق الثورة السورية ومريديهم، وفي حمأة ترويجهم الذي لا ينتهي المقولة الخرافية المناقضة لكل واقع ومنطق سياسي، وتقول إن “الأسد وداعش متفقان أو متحالفان”، وهي مقولةٌ ساهمت بإنتاج القبول الواسع للركيزة الأيديولوجية “للصحوات السورية”، بل قل غسل الدماغ لجزء كبير من الجماهير السورية المعارضة للأسد. هؤلاء الشيوخ وتلاميذهم بكوا ولطموا كثيراً، حين سيطر تنظيم داعش على مدينة تدمر، لانّ الأخير بعدها قام بتفجير السجن المرعب الذي كان كثيرون منهم نزلاءه. ذلك أنّهم فقدوا “ذكرياتهم” فيه إلى غير رجعة. فبحسب بعض الكتّاب المفرطي الحساسيّة، كانت جريمة داعش التي لا تغتفر حينها أنّها منعت “تحويله إلى متحف”. حقا. يا للشاعريّة. لكن، لا بأس، ما عليهم الآن إلا أن يتأملوا خيرًا، فالنظام في المستعمرة الإيرانية المفدرلة الآتية التي ستسمى أيضاً سورية، والذين يساهمون في الإتيان به هذه الأيام، إذا ما بقي قائما مدة كافية سيبني سجن تدمر من جديد. وهو لن يكون متحفًا. حتماً.