تركيا ” الواقعية ” .. وداعاً لسياسة ” رحيل الأسد و نظامه ” !

لن يُعرف مدى التغيير في السياسات التركية في المدى القريب، وإنْ كان ما ظهر منه أخيراً يشير الى انعطاف كبير، بعضٌ منه يُفهم بمنطق المصلحة القومية بما فيها من سياسة وأمن وتجارة، وبعضٌ آخر بضرورات الحفاظ على تركيا في المعادلة الاقليمية. ومع افتراض أن أنقرة كانت مبدئية مئة في المئة في مقاربتها لقضية الشعب السوري، وفي مطالبتها برفع الحصار عن غزة، وفي سعيها الى إيجاد توازن داخلي عراقي يخفف من وطأة الهيمنة الإيرانية الفاقعة، إلا أن طبيعة الاستقطابات الدولية في المنطقة لم تسعف تركيا كما لم تسعف العرب من قبلها. أكثر من أي قوة إقليمية أخرى وجدت تركيا نفسها محكومة بشروط لا تبدو إسرائيل أو إيران مكبّلة بها، ربما بسبب إرث تركي تاريخي انطبع بالسلبية وتبِعه قرنٌ من الانكفاء عن الشرق العربي، أو لأن ازدواجية تركيا بعلمانيتها وإسلاميتها أربكت عودتها الى ذلك الشرق بعدما كانت إسرائيل وأميركا أمعنتا في إحباطه، فيما قطعت إيران شوطاً في نخره بسوسة «تصدير الثورة» وعسكرة الشحن المذهبي.

المؤكّد أن المسألة السورية هي التي ستحدّد ملامح الوجه الآخر للسياسات التركية الجديدة. فبعد الشروع في تطبيع العلاقة مع روسيا، وإنهاء الخلاف مع إسرائيل، وقبل ذلك وقف تدهور العلاقة مع إيران مع إقرار الدولتين باستمرار خلافهما على سورية، ومع التلميح الى احتمال حصول خطوة باتجاه إصلاح العلاقة مع مصر، لم يبقَ أمام أنقـــرة سوى نقلة واحدة: الاتصال بدمشـــق. قد تبدو هذه المبادرة صعبة لكنها لن تكون مستحيلة، إذا أمكن تركيا أن ترى الـــمصلحة وتلمسها. كانت آفاق التبادل مع روسيا رحبة وواعدة ولا تـــزال، ومجالات التعاون مع إسرائيل كبيرة ومتنوعة ولا تــزال، كذلك مع إيران، وكانت بلغت مستوى متقدّماً جداً خلال سنوات العسل مع النظام السوري… لذلك لم يكن عسيراً على رجب طيب اردوغان أن يفرمل اندفاعاته السلطانية ليعكف على ترميم الصورة واستعادة المشهد السابق رغم كل المتغيّرات العميقة التي استجدّت عليه.

لم يتوقّع أحد أن ترفع إسرائيل حصارها عن قطاع غزّة من أجل التطبيع مع تركيا. فحتى العرب لم يطلبوا رفع هذا الحصار مقابل التطبيع بل وضعوه في اطار تسويةٍ شاملة لا أحد يدري إذا كانت ستتم يوماً. ولو أُخذ في الاعتبار أن المصالح الرئيسية بين تركيا وإسرائيل لم تتأثّر بتداعيات حادث سفينة «مافي مرمرة»، بل إن جانبها التجاري شهد نمواً، فإن الحلول الوسط كانت متوافرة في انتظار الظرف السياسي الملائم. راح هذا الظرف يتبلور بعد أسابيع قليلة من تفجّر العداء الروسي لتركيا والعقوبات التجارية والسياحية التي فرضتها موسكو غداة إسقاط الـ «سوخوي 24»، فأعادت أنقرة تنشيط القناتين الإيرانية والإسرائيلية، الأولى لتجديد الفصل بين التعاون التجاري والخلافات السياسية وخصوصاً لحاجتها الى ضمان استمرار التزوّد بالطاقة بعد خسارة المصدر الروسي، والثانية لحل الخلاف القائم في شأن غزة لكن أيضاً للمساهمة في استثمارات الغاز الإسرائيلي.

استشعرت إيران كما إسرائيل أن اردوغان بات مستعدّاً للنزول عن الشجرة، لكن طهران لم تشأ أن تساعده بل كانت مرتاحة الى أن المسار الذي اتخذته روسيا من شأنه أن يضعف تركيا ويشطبها من المعادلة الإقليمية، أما بنيامين نتانياهو فوجد الوقت مناسباً لانتزاع تسوية لمصلحته لكنه لعب ورقة المصالحة مع اردوغان على الطاولة الروسية واستطاع من جهة إقناع فلاديمير بوتين باجتذاب تركيا الى دور مختلف في المسألة السورية، ومن جهة اخرى إقناع اردوغان بالتنازل لروسيا كي يحافظ على دور تركي موازٍ للدور الإيراني في سورية. قبل أكثر من شهرين بدأت مصادر تركيا وإسرائيل تؤكد توصّلهما الى اتفاق، وتردّد مراراً أن توقيعه وشيك، ثم تبيّن أن اعتراض موسكو هو ما أخّره، خصوصاً أنها وإسرائيل كانتا في صدد تطوير تنسيقهما العسكري في شأن سورية.

كان الإعلان في يوم واحد عن ذلك الاتفاق، وعن رسالة اردوغان الاعتذارية الى بوتين، رسالة بالغة الدلالة الى واشنطن، تحديداً الى باراك اوباما. فالأخير كان أنجز خطوة أولى عندما أقنع نتانياهو (أواخر آذار- مارس 2013) بمهاتفة اردوغان لإحاطته بـ «أسف – اعتذار» إسرائيل وإبداء الاستعداد لحل الخلاف. لكن اوباما الذي بدأ هذه المبادرة بـ «دوافع استراتيجية» اميركية لم يستطع إكمالها لانتفاء أي استراتيجية لديه، فتولّى بوتين إنجازها للدوافع نفسها، لكن لمصلحة استراتيجية روسية. صحيح أنه يمكن المجادلة بأن مجمل ما حصل لا يخرج عملياً عن إطار المعادلة الإقليمية التي تريد اميركا هندستها قبيل «مغادرتها» المنطقة. غير أن طريقة بوتين في ممارسته «القيادة» لا تنفكّ تكشف تراجع نفوذ اميركا وتقضم من «هيبتها».

لا شك في أن الخذلان الاميركي هو ما دفع تركيا باتجاه محور روسيا – إسرائيل. كانت أنقرة نسّقت مع واشنطن مقاربتها للأزمة السورية وقطيعتها مع نظام بشار الأسد، ومثلها فعلت الدول العربية الداعمة للمعارضة، وطوال الأعوام الخمسة تعرّف العرب والأتراك الى سياسة اميركية بوجوه متعددة وخطاب تضليلي منعدم الرؤية ودعم كاذب لقضية الشعب السوري. وفي أزمتها مع روسيا لمست تركيا أن الولايات المتحدة وحلف الأطلسي غير معنيين بدعمها، وهو الموقف نفسه الذي أدركته السعودية ودول خليجية أخرى عندما بلورت مع تركيا صيغة مبادرة للمشاركة في محاربة الإرهاب، اذ فضّلت واشنطن التعاون مع ميليشيا كردية ومجموعات مسلحة متفرقة رغم علمها بأنها تثير مخاوف تركية بعبثها بالورقة الكردية وبأنها تطلق رسائل خاطئة في ما يتعلّق بالحرب على تنظيم «داعش».

اتسم اللقاء الأول، بعد القطيعة، بين وزيري الخارجية الروسي والتركي، باستعداد للتعاون في سورية، وبأنهما لا يختلفان حول تعريف الإرهاب. كيف ذلك وموسكو انفتحت على الأكراد وتنسّق معهم، فيما تسمّي أنقرة الإرهاب «بي كي كي» (حزب العمال الكردستاني) أولاً، ثم فرعه السوري «بي يي دي» (حزب الاتحاد الديموقراطي) ثم «داعش». فالأخير لا يهدد الكيان التركي ومصيره الى الزوال مهما طالت الحرب عليه، أما الخطر الكردي فيمثّل الخطر كل الخطر لتركيا، وبات مقلقاً لطهران مع بروز بنيته العسكرية في المناطق الكردية وذهاب إيران في مواجهاتها مع «البيشمركة» المحلية الى حدّ قصف مناطق حدودية في كردستان العراق. أقلّ ما يمكن أن يهدّئ هواجس أنقرة أن تحصل على «ضمانات» روسية لمنع أكراد سورية من إقامة اقليمهم الخاص، وهو ما لم تتمكّن من انتزاعه من اميركا رغم عراقة العلاقة وعمقها بينهما. قد يستجيب الروس، صدقاً أو كذباً، لكنهم سيطلبون ثمناً لذلك.

فجأة، وبلا مقدّمات، أعلنت إيران بلسان المرشد أنها رفضت عروضاً اميركية للتنسيق في شأن سورية، وكانت طهران طمحت دائماً الى تنسيق كهذا لكن بشروطٍ ليس أولها وأهمّها بقاء الأسد في الحكم كما قد يتبادر الى الأذهان، بل ضمان استمرار وجودها المباشر (وعبر «حزب الله» وسائر الميليشيات) لحماية ما تدّعيه من «مصالح». لذلك تفضّل طهران مع موسكو وإنْ كانت تفرض عليها تعايشاً مزعجاً مع الوجود الروسي في سورية. في المقابل، يحاول اردوغان وأركان حكومته فتح تطبيع العلاقة مع روسيا على أفق «حل» للأزمة السورية. ولأن الخيارات التركية محدودة، بسبب الممنوعات الاميركية والروسية، وحتى الإسرائيلية والإيرانية، التي اختبرتها تباعاً، فإن أنقرة قد تكتفي بأي ضمان لكبح الاندفاعات الكردية كي تقول وداعاً لسياسة ظلّ «رحيل الأسد» و «إزالة نظامه» عنوانها المعلن والمبطن. أما العنوان الجديد – «الواقعية» – فباتت تحدّده المصالحة مع الروس والإسرائيليين، المتوافقين على بقاء الأسد ونظامه في انتظار ايجاد بديل منه. لكن التبشير بـ «الحل» مرفقاً باستعداد غير واقعي وغير عملي لتوطين اللاجئين السوريين وتجنيسهم، فيعني أن هذا الحل لا يزال بعيداً.

عبد الوهاب بدرخان – الحياة[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

‫8 تعليقات

  1. لسان حال الجميع الان هو بما فيهم روسيا هو اذا لم يكن بالامكان ازاحة هذا اللص والمجرم والتافه المولدن الاسد فمن الممكن قتله بشي صاروخ او رصاصة … وازاحته بهذه الطريقة.

  2. مقال سطحي جدا, التوجهات السياسية تحركها حاليا المصالح الاقتصاديه, ضعف الموقف الامريكي المقصود حيال مشاكل الشرط الأوسط هو ما جعل أمريكا باعادة النظر بسياستها مع الدول الباردة العلاقات معها. بينما العكس, علاقتها مع نظام الأسد هو الحرب, المدعومة اقتصاديا من الخليج, و الذي بدورة لن يتراجع عن المطالبه بازلة الأسد. اذا التحالفات مع روسيا و اسرائيل هو أول خطوة لحل الأزمة السورية و الغالب متفق علية خطة التقسيم

  3. لنكن واقعيين . الثوار لايهتمون لا بتركيا و لا بغيرها . تذكروا ثوار حماه البعيدين عن الحدود. الذي يبكون الاسد ليلا نهارا .تذكرو رجال الغوطة . الذين يحاصرون الاسد . وبالنهاية الثورة لديها قوتها الذاتيه . التي ستسقط الاسد صريعا أمامها.

  4. التحدي لم يقلق الثوار يوما. بل زادهم عزيمة للتفوق. وإظهار قدراتهم الخاصة في تجاوز العقبات .

  5. من يعتقد بأنه مازال بالإمكان تعويم الأهبلوف ونظامه مهما تلقى من دعم أمريكي قبل الروسي فهو واهم بل وأعتقد بأن الأمريكان والروس يدركون ذلك تماما وهم لم يطالبوا بعد برحيله أو يضغطوا عليه للرحيل عن طريق مجلس الأمن باعتباره مجرم حرب لأنهم لم يجدوا البديل عنه بعد وأقصد البديل الذي يحظى بتأييد الحاضنة العلوية وأيضا السنية المنتفعة من النظام الحالي وهذا بحد ذاته ليس بمشكلة صعبة فالأسماء المرشحة كثيرة والفئة المؤيدة باتت تبحث عن حبل الخلاص والنجاة بأي ثمن أما المشكلة الكبرى فهي بالفصائل المعارضة فهي على تنوع إيديولوجياتها وأهدافها وداعميها وعددها الهائل صارت صعبة وعصية على قبول حل يبقي بنية النظام والجيش والأمن على ماهي عليه مع إجراء روتوشات تجميلية سطحية كإسناد مناصب أمنية وعسكرية رفيعة لأذناب السنة والطوائف الأخرى ولقاليقهم للانتفاع من تلك المناصب ليس إلا فيما تبقى النواة الهرمية الصلبة بيد العلويين ولذلك أصبحنا نسمع في الآونة الأخيرة عن نية روسيا وأمريكا التعاون العسكري فيما بينهما من أجل القضاء على معظم الفصائل العسكرية المعارضة أو إنهاكها لدرجة لاتستطيع معها تغيير المعادلة على الأرض وهذا التعاون إن تحقق فسيعيد الأزمة إلى مربعها الأول فبالنهاية سيحتاج من يريد فرض حله على السوريين رغما عنهم إلى قوات برية تمسك بالأرض وهذا مايفتقده النظام وداعميه ولن يقدروا في المستقبل المنظور على جسر الهوة البشرية في ماكينته العسكرية المهترئة أصلا وما يقلب كل تلك الطروحات التآمرية هو اتحاد الفصائل مع بعضها تحت راية الثورة فقط ولكن نحن ندرك بأن أكثر من 5 سنوات من القتال والدمار والنزوح لم تقنعهم بالاتحاد فلماذا نأمل منهم فعل ذلك الآن؟

  6. إلي بيسمع هالتعليقات بيفكر إنو هدول الثوار أبطال جايين من الفضاء وبينسى إنو هدول عم يقبضو رواتب من جهات غير خفية على أحد وإنو صرلهم خمس سنين عم يقاتلو وبعدهم عم يحصلو عالذخيرة وعاﻷسلحة يعني من الغباء فصل هؤلاء عن دول الجوار التي يعملون لصالحها وتحت أجندتها وإلا لتوقفت عن دعمهم ورمت بهم إلى الهلاك كما حصل لغيرهم من قبلهم