تركيا : زفرة الجنرال الأخيرة ؟

في سنة 2002 أصدر القاضي الفرد العسكري في إسطنبول أمراً باعتقال الكاتب والناشر الشاب فاتح طاش (26 سنة)، صاحب دار النشر الصغيرة الناشئة «أرام»؛ وذلك بسبب نشره كتاباً بعنوان «نزعة التدخّل الأمريكية»، للمفكر الأمريكي الشهير نعوم شومسكي. لكنّ القضاء المدني، ربما بتأثير الضغوط الدولية التي قادها شومسكي نفسه حين جاء إلى إسطنبول وحضر المحاكمة، برّأ طاش من التهمة التي كان القضاء العسكري قد وجهها إليه، وهي «نشر موادّ دعاوية تستهدف النيل من وحدة البلاد». القضاء العسكري كان، في عام 2005، قد ساق طاش نفسه إلى محاكمة مماثلة، بعد نشره كتاب الأمريكي جون تيرمان «غنائم الحرب: الكلفة الإنسانية لتجارة السلاح الأمريكية»؛ والتهمة هذه المرّة كانت إهانة مصطفى كمال أتاتورك، دون سواه، والنيابة طالبت بسجن الناشر تسع سنوات!

في السنة ذاتها، أمر القاضي العسكري بالإغارة على مكاتب المجلة الأسبوعية «نقطة»، التي كانت تُعتبر ليبرالية خالصة ولا علاقة لها بأفكار شومسكي أو اليسار التركي؛ وذلك لأنّها نشرت مذكرة عسكرية سرّية تطالب بوضع عدد من منظمات المجتمع المدني وبعض وسائل الإعلام على اللائحة السوداء. سبب آخر هو أنّ المجلة نشرت تقريراً مفصلاً، وموثقاً، حول مخطط انقلاب كان الجيش يعتزم القيام به، سنة 2004، ضدّ حكومة رجب طيب أردوغان. ولقد جرى احتلال مكاتب المجلة طيلة ثلاثة أيام، واُجبر الصحافيون على مناقشة مصادر معلوماتهم، وصودرت وثائق ومراسلات خاصة، ونُسخت كامل محتويات القرص الصلب في بعض الكومبيوترات. وفي نهاية المطاف اضطرّت المجلة إلى التوقف عن الصدور، رغم أنها كانت بين المطبوعات الإخبارية الأكثر شعبية ومبيعاً.

وللتذكير مجدداً، هنالك أسباب عديدة، تاريخية واجتماعية وثقافية، تقف وراء إصرار الجيش التركي على وضع سلطاته فوق المجتمع والدستور واللعبة الديمقراطية. أهمّ هذه الأسباب أنّ الكمالية، التي أسسها أتاتورك كإيديولوجية رسمية ثمّ طوّرها عبر سلسلة مؤتمرات لـ «الحزب الجمهوري الشعبي» بين عام 1927 و1935؛ تسند إلى العسكر مهمة «الحارس» على الأمن الإيديولوجي للأمة التركية، بوصفه أحد الفروع الأساسية للأمن القومي العام. ورغم أن الكمالية حظيت بإجماع شعبي واسع نسبياً، طيلة عقود؛ فإن الشرائح العسكرية هي وحدها التي حوّلت المبادئ الكمالية، حول العلمانية والأمة ـ الدولة والديمقراطية الغربية تحديداً، إلى ما يشبه «الطوطمية الكمالية».

كذلك يعود تصوّر الجيش عن نفسه، بأنه فوق الأمّة، إلى حقيقة ضعف الروابط بين المجتمع والشرائح العسكرية العليا، استناداً إلى التقاليد القديمة التي اعتمدتها الإمبراطورية العثمانية في تشكيل الفصائل الإنكشارية، والمعايير التي اعتمدت في التجنيد واختيار الضباط. ورغم ما يقال أحياناً من أنّ الجيش يدافع عن مصالح الطبقة الوسطى، وبالتالي عن اقتصاد السوق الرأسمالي من خلال دمج رموز الجيش العليا في النظام الاقتصادي القائم؛ فإن التوازي الأساسي يقوم بين تحالف الجيش مع البيروقراطية المدنية من جهة، والنخب السياسية والتكنوقراطية من جهة ثانية.

ومنذ الثمانينيات، ونتيجة العجز المدني عن حلّ الأزمات البنيوية ووقف تصاعد العنف عن طريق قوانين الطوارئ، توطدت مواقع الجيش أكثر فأكثر، وعجزت النخب السياسية ـ المحافظة مثل تلك الليبرالية ـ عن وضع حدّ لطبيعة ونطاق التدخل العسكري في الحياة المدنية. وقد تمثل ذلك في «مجلس الأمن القومي» بصفة خاصة، الذي أنشئ عام 1961 ليعطي الجيش فرصة إبداء الرأي في بعض المسائل الإيديولوجية والتربوية. وبموجب التعديل الدستوري لعام 1973، مُنح المجلس حقّ تقديم «توصيات» غير مُلزمة دستورياً للحكومة المدنية. وأما في التعديل الدستوري لعام 1982 فقد اكتسبت هذه التوصيات صفة «الأولوية» على جدول أعمال مجلس الوزراء، وفي الآن ذاته ازداد عدد الأعضاء العسكريين في المجلس على حساب الأعضاء المدنيين.

ولقد شهد العالم كيف ترنحت الديمقراطية التركية تحت الضربات المتلاحقة التي لم يتردد جنرالات الجيش في تسديدها إلى قلب التجربة.

وفعل الجنرالات هذا، مراراً وتكراراً، كلما تعيّن أن يشهروا المسدّسات استناداً إلى تقديرات مجلس الأمن القومي، بوصفه الحارس الساهر على العلمانية، والوحيد الذي يمتلك الحق في الاجتهاد العلماني وتحويل محتوى الاجتهاد إلى قرارات ملزمة للمجتمع. وكان يستوي، هنا، أن يلجأ الجيش إلى القانون (المحكمة الدستورية، وحلّ الأحزاب)؛ أو إلى حبل المشنقة (كما في مثال عدنان مندريس، أوّل زعيم سياسي منتخَب ديمقراطياً)؛ أو إلى الانقلاب العسكري (ثلاثة انقلابات دامية، ورابع «أبيض» ضدّ حكومة نجم الدين أربكان) بوصفه ذروة العلاج بالكيّ.

وهكذا، حين لا ينقلب جنرالات تركيا ضدّ الساسة، فإنّ شهوة الانقلاب المتأصلة في نفوسهم تنصبّ على دور نشر ومجلات وأقلام. والأمل أن تكون محاولة الجمعة الماضية، الفاشلة، بمثابة زفرة الجنرال التركي… الأخيرة!

صبحي حديدي – القدس العربي[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

تعليق واحد