كارول معلوف و دروس حقوق الإنسان
من بين ما ينتظر الناس سماعه إثر أي اعتداء يحدث حول العالم هذه الأيام الكلمات التي يصيح بها المهاجم أثناء الهجوم، وعلى نحو أكثر دقة: إنهم ينتظرون إن قال عبارة «الله أكبر» كي يحصلوا على الدليل الأول والدامغ على أن الهجومَ إرهابيٌّ ومرتبط بالإسلام (دعك من جواز السفر المتروك إلى جوار الجثة). لكن مهاجم ميونيخ، الذي قَتلَ منذ أيام بمسدسه تسعة أشخاص وأصاب 35 آخرين، قبل أن يطلق النار على رأسه، قال شيئاً آخر، لا بد أن كثيرين ارتاحوا له، وسيحفظون له هذه العبارة طويلاً «أنا ألماني، أنا ولدت هنا في حي هارتز أربعة».
ذلك ما ظهر في فيديو (مدته دقيقتان) يصوّر حواراً بين رجل على شرفة والمهاجم في موقف السيارات أسفل البناية. لم تُرِدْ وسائل الإعلام أن تترجم الجزء الأول من الحوار، فبقي الثاني معلقاً، مثيراً لمخيلات الناس (من غير الناطقين بالألمانية)، مثل درس من دروس الدراما: إذا كانت لدينا عبارة تقول «أنا ألماني، أنا ولدت هنا في حي هارتز أربعة»، فما هو الشق الأول من الحوارية؟ على أي كلام جاء هذا الردّ؟
الأخبار الأولى اكتفت بالقول إن رجل الشرفة (سيظهر لاحقاً أنه سائق جرافات يدعى زالباي) وبعد أن وصفه بـ «القذر»، كما وجّه له شتائم عنصرية. لم يرد الإعلام أن يؤجج المشاعر بالطبع، ولذلك لم يفصّل أي شتائم كانت.
لاحقاً سنشهد، على هامش الحدث المأساوي، بقية اللعبة الإعلامية الممتعة؛ سيذهب الإعلام إلى الشرفة التي صُوّر منها الفيديو، وهو غير سائق الجرافات، فهذا شاب له من العمر 20 عاماً أراد أن يبث الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، كي يحذّر أصدقاءً له يرتادون المجمع التجاري في وقت الهجوم. اسمه ميرزاد ويعيش في هذه المدينة منذ ثماني سنوات. مسلم، ويدين الإرهاب، ويُشعِره بالحزن.
بعد ذلك سنرى المشهد من زاوية سائق الجرافات، في شرفة فوق شرفة ميرزاد. إنه توماس زالباي (57 عاماً)، الذي ألقى بشتائم عنصرية على المهاجم الإيراني الأصل، ثم رماه بزجاجة البيرة التي تحطّمت من دون أن تصيبه، وقال إنه لو كان يملك سلاحاً لأرداه بالتأكيد.
هكذا يمكن للكاميرا أن تتابع عملها لتزور كل الشرفات، لتدوّن يوميات العمارة المقابلة للمهاجم، بشكل يبدو معه أن تلك العبارة، لا طلقات المهاجم، كانت محور الحدث، ومحور كل حوار ونقاش لاحق.
اللافتة الألمانية الأكثر تداولاً في ساعات ما بعد الهجوم كانت تحمل كلمة واحدة «لماذا؟» (فاروم؟)، ووضعت مع الزهور في مكان الحدث، ولعلها جاءت جزءاً من الحوار، لكن هذه المرة كجواب لاحق لكلمات المهاجم لماذا إذاً! ما دمتَ ألمانياً، ولدتَ هنا في حي هارتز أربعة»، لماذا؟
كارول معلوف غائبة عن درس حقوق الإنسان
كنا نعرف منذ مقابلة الصحافية اللبنانية كارول معلوف مع أسرى «حزب الله»، وبثها بخلاف إرادته، أنها ستكون على لائحة المستهدفين من قبل الحزب وحلفائه. لن يكون تقرير تلفزيون «الجديد» التشهيري بخصوص معلوف إلا في هذا السياق الكيدي. لكن ذلك لا يلغي أن هناك حقائق في قلب التقرير مزعجة، وقد اعتمد عليها «الجديد» كي يسند حجته.
بات من الواضح أن معلوف من الهشاشة في الأداء بحيث أنها لم تعد مقنعة كإعلامية محترفة، إذ لن يسندها في مواجهة نظام متوحش، كالذي تواجهه، غير المهنية. لن يستطيع نبل الموقف من الثورة السورية وحده أن يسند إعلامياً جاهلاً ورديئاً.
من بين مواقفها العديدة يلفت تعليقها بخصوص جريمة ذبح أحد عناصر الميليشيا الموالية للنظام السوري في حلب، على يد مجموعة تتبع لفصيل معارض يفترض أنه على قائمة الاعتدال، لن يبقى أحد لم يدن جريمة الذبح، بمن فيهم الفصيل المعارض نفسه (نور الدين الزنكي)، غير أن معلوف، كما نقل عنها «الجديد» بصوتها، تقول «ع جهنم.. بيروح يدبح الناس، وحرام اذا دبحوه!».
لا ندري إن كانت معلوف قد درست في كليات الإعلام أن عرض الأسير على شاشات التلفزيون هو خرق لحقوق الإنسان، فما بالك بذبحه، هكذا على الملأ، من غير محاكمة، ولا محامين، وبهذه الطريقة المتوحشة الاحتفالية.
سعودي يتحدث العبرية
لطالما حيّرتني هذه الظاهرة: العربية الفصحى لحكام السعودية بدت على الدوام منهَكَة، مفككة، تشعر كما لو أن الخطيب يريد أن يرتاح دهراً بعد الانتهاء من قول العبارة. يبدو أن ذلك يصبح صحيحاً كلما اقترب المرء هناك من كرسي الحكم.
تابعنا أخيراً مقابلة الجنرال السعودي السابق أنور عشقي، وقد تحدث لقناة إسرائيلية باللغة الانكليزية، حتى هذه بدت انكليزية أخرى، نسخة معدة للمسلسلات البدوية مثلاً، لكن ما بدا غريباً جداً أن الرجل كان متألقاً وهو يحشر عبارة باللغة العبرية في وسط الكلام «مستعد للدفاع عن السلام بكل قلبي». قالها عشقي بانتشاء، فبدت وكأنها زبدة القول وهدف كل ظهوره على الشاشة العدوّة. أضاء وجه الرجل وهو يقولها، وبانت ضحكته واسعة، هو الذي كان منذ هنيهات يعاني مع كل كلمة يطلقها.
إلى جانب ذلك، يلاحظ المرء أن عبارة عشقي العبرية تبدو وكأنها مطلع أغنية لمغن، لا عبارة يقولها جنرال من الشرق الأوسط. غريب فعلاً! ليت هؤلاء الجنرالات يبدون الاستعداد نفسه للسلام مع شعوبهم بقدر استعدادهم للسلام مع أعدائهم الإسرائيليين.
أزمنة الكوكاكولا
تعرض «سي أن أن العربية» تقريراً متلفزاً بعنوان «زجاجات كوكاكولا سرية للجنرالات الروس العطشى»، تعود فيه إلى الحرب العالمية الثانية والقفزة العالمية للكوكاكولا، إلى حدّ وصفها بأنها رفعت معنويات الجيوش الأمريكية.
يؤكد تقرير «سي أن أن» أن دوايت ايزنهاور التقى غيورغي جوكوف، الجنرال البارز في هزيمة ألمانيا النازية، وعرّفه على الكوكاكولا، فتعلّق بها جوكوف. إلا أن الكوكاكولا ستتحول بعد الحرب إلى رمز امبريالي، وستحظر في الاتحاد السوفياتي. يتصل جوكوف مباشرة بالرئيس هاري ترومان ليرسل إليه شحنة سرية، فيجري تمويه مظهر الزجاجة، ويتم إلغاء لون المشروب، مع الحرص على أن يحافظ المشروب الشبيه بالفودكا على طعم الكوكاكولا الكلاسيكي. يعبّأ في عبوات زجاجية بأغطية تحمل النجمة الحمراء. ويتم إرسال 50 صندوقاً إلى روسيا.
التقرير يختم بالقول «حصل جوكوف على ما أراده، ولم يكشفه أحد مع الكوكاكولا المتنكرة، وعلى حد علمنا، لم تظهر مرة أخرى منذ ذلك الحين».
لا نعرف بالضبط أي مناسية لتقرير «سي أن أن»، فلا ذكرى مئوية لابتكار المشروب الشهير، ولا خسائر هائلة، ولا اعتداء على مصنع للكوكاكولا، فماذا يراد من هذا التقرير؟ هل هو الإيحاء بأن الكوكاكولا ما زالت تسري في دماء الروس، أم أن لا غنى لهؤلاء عن العقل الأمريكي المبدع، أم أنه مجرد إعلان مدفوع من قبل الشركة الأكثر حضوراً في أرجاء العالم؟
أغلب الظن أنها جزء من حرب أمريكية مألوفة، فللأمريكيين طريقتهم في الأزمات، إنها على غرار تلك الأزمة التي نشبت مع الفرنسيين إثر خلاف حول حرب العراق العام 2003 حينها أراد الأمريكيون تغيير اسم «الفرنش فرايز» (البطاطس المقلية)، فيما تحداهم الفرنسيون أن يتخلّوا عن النبيذ الفرنسي، اشتعلت حينها حرب الرموز والمنتجات. هذه هي الحرب.
راشد عيسى – القدس العربي[ads3]
مقال ممعن في التفاهة