من الغرق في كابول إلى العَوم في دمشق

لم تمضِ إلا بعض ساعات على إعلان السكرتير العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتينبرغ، أن «الحلف لا يعتبر روسيا حليفاً استراتيجياً، إلا أنه ليس في حالة حرب باردة معها»، حتى أسرع الرئيس الأسبق، ميخائيل غورباتشوف في التصريح بأن «الحلف الأطلسي يعد العدّة لحرب ساخنة جديدة تخلف الحرب الباردة». تناقض التصريحين السابقين قد لا يشي بنوايا طيبة في كلا المعسكرين، إلا أنه لا ينمّ على كل حال عن احتمال مواجهة حقيقية قد تصل إلى حرب ساخنة، كما أراد غورباتشوف تصويرها، ولو كان الأمر يصل إلى حد الاصطدام الــعسكــري لحدث في مناسبات استفزازية عدة تعمّدت فيها روسيا ليّ ذراع عُصْبة الأطلسي أو إثارة حفيظته في أبسط الأحوال، ابتداءً باحتلالها وضمّها لشبه جزيرة القرم، مروراً بهجوم الانفصاليين الموالين لموسكو على شرق أوكرانيا في ربيع 2014، وصولاً إلى تحليق متكرّر واستفزازي لطائرات روسية فوق سفن حربية للجيش الأميركي في بحر البلطيق.

من نافلة القول إن الموقف الرخو للحلف الأطلسي، على رغم الزخم الإعلامي الذي يروّج عن خطوات صعبة اتخذها الحلف ضد موسكو التي سبق أن ابتلعت جزيرة القرم بين ليلة وضحاها، ثم تمادت في أطماعها التوسعية إلى سورية لتبني قاعدتها العسكرية في منطقة البحر الأبيض المتوسط على الساحل السوري إثر قاعدة البحر الأسود في الجزيرة المحتلة، ذاك الموقف الرخو اخترقته المستشارة الألمانية في تصريحات استباقية قبيل انعقاد قمة الأطلسي، أمام البرلمان الألماني، قالت: «إن سلوك روسيا خلال الأزمة الأوكرانية زعزع حلفاءنا في الشرق إلى حد كبير، فعندما يتم التشكيك بحرمة الحدود وسيادة القانون، فإن الثقة تتراجع».

غياب الثقة بين الأطلسي وروسيا ليس سبباً كافياً ليتمّ الإعلان عن نشر أربع كتائب متعددة الجنسيات في دول البلطيق وبولندا بمحازاة الحدود الروسية مباشرة؛ إلا أن دول الحلف أصبحت تستشعر الخطر الذي يحمله الحلم القيصري التوسعي لفلاديمير بوتين في جولته الجديدة التي قضم فيها جزيرة جارة، وعرّج بجنوده المجنّدة على سورية ليتابع مطامحه في العودة إلى سدّة زعامة العالم من بوابة الحروب المحدودة، لكن الاستثنائية في زمانها ومكانها وأهدافها غير المعلنة. فالمادة الخامسة من معاهدة الناتو، والتي تتعلق بالدفاع المشترك وواجب دول الحلف صد العدوان عن الدول الأعضاء، يتم تفعيلها اليوم من أجل طمأنة الحلفاء في أوروبا الشرقية بأنهم يتمتعون بحماية المظلة الأطلسية من خطر النوايا المبيّتة لموسكو إثر تضخيم عديدها ومقاتليها في غرب الأراضي الروسية.

هذا هو الحال على الحدود الروسية مع دول أوروبا المشرقية، أما إلى الجنوب، وتحديداً في الوجع الحقيقي للروس (السوفيات) المندحرين من أفغانستان، فقد قرر مؤتمر الحلف تمديد مهمة بعثته هناك للعام 2017 والإبقاء على تواجده في أفغانستان بمعدل 12 ألف عنصر. وليست أفغانستان إلا الصورة القديمة الجديدة للصدام بين المعسكرين الشرقي والغربي الذي أدى إلى الغزو العسكري السوفياتي فيها عام 1979، بحجة معاهدة الصداقة والتعاون بين كابول وموسكو، من أجل دحر المعارضة الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة والسعودية وباكستان وبريطانيا في ذلك الوقت.

وأكثر ما يخشاه الأطلسيون الجدد هو أن تتكرر لعبة الأطماع السوفياتية الشيوعية البائدة لليونيد بريجنيف لتجد لها موضعاً في العهد الروسي القيصري الجديد لفلاديمير بوتين، على اختلاف المرحلتين في عقيدتهما السياسية لكن باشتراكهما في الأهداف التوسعية، وأن يكون السيناريو الذي أعدّته موسكو لسورية مشابهاً للذي كان لأفغانستان. فالظروف السياسية متقاربة في الحالتين السورية والأفغانية من حيث التدخل الروسي بالسلاح الكامل والثقيل في البلدين وتحت العنوان نفسه و «بطلب من الحكومة الشرعية». وهناك أوجه تشابه أخرى بين الحالتين منها دعم الولايات المتحدة والسعودية للمعارضة السورية في كفاحها الشرعي والعادل الذي يوازي دعمها في السابق للمعارضة الأفغانية ضد الهيمنة السوفياتية، ثم الاحتلال المباشر للبلاد.

فصل المقال يكمن في الموقف الأطلسي الذي ما زال يفتقر إلى المزيد من التمكين، والتفعيل، والتوصيف الواقعي لحجم الأزمة المشتعلة على شواطئ المتوسط، استعداداً لمواجهة الغطرسة الروسية وانتشارها في غير دولة من العالم، الانتشار الذي تحوّل إلى احتلالات حقيقية تمارس فيها قواها العسكرية كل أشكال العنف والتنكيل ضد المدنيين العزل كما هو الحال في سورية. وليس الحوار المرتقب لـ «مجلس الأطلسي – روسيا» بُعيد قمة وارسو سوى قفزة أخرى إلى الوراء لن تخدم قضايا السلام والاستقرار الدوليين، كما يراد بها، بالقدر الذي ستقوي من عضد روسيا وتزيد من كتلة غطرستها في الوقت الذي يزداد الزندُ الأطلسي ارتخاءً. وبينما كان النصيب السوفياتي الغرق ثم الهزيمة في كابول، ربما سيكون القيصر الجديد أكثر حظاً في السباحة والعوم في بحر الدم السوري بغيابٍ مقلق للإرادة السياسية والقوة الرادعة من طرف المعسكر الأطلسي.

مرح البقاعي – الحياة[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

تعليق واحد

  1. مرح البقاعي كانت ضيفة دائمة على صفحة (معاليق الثورة السورية) وكانت دائما محط سخرية الصفحة ، هي في هذا المقال مثلاً تضع أملها في حلف شمال الأطلسي وتعتب عليه على الرخو في مواجهة روسيا ، وهي كانت دائما من المراهنين على أمريكا وهي تقيم في أمريكا ، الحقيقة أن أمريكا والأطلسي لن يفعلا شيئا للسوريين أبداً ، ومثلهم مثل باقي أصدقاء سوريا لا يقدمون سوا الكلام ، وهم يتفرجون على إنقراض الشعب السوري بكل برود وعدم إكتراث