حلب ليست نصراً لروسيا و لا خسارة لأميركا
سقط رهان البيت الأبيض على تفاهم مع الكرملين. وباب الخيارات «الجديدة» التي يدرسها لرفع التحدي يكاد يكون مقفلاً. لا أحد يتوقع أن يعمد إلى استخدام القوة لا في حلب ولا في غيرها. ليس مستعداً للوقوف على شفير المواجهة مع موسكو. وهذه لم تتأخر بالرد على التهديدات الأميركية. حذرت من تغييرات «مزلزلة» في الشرق الأوسط إذا شنت الولايات المتحدة عدواناً مباشراً على دمشق والجيش السوري. والواقع أن هذه المواقف لا تعدو كونها قرقعة لا تبدل ولا تغير في الوضع القائم في سورية. تأخرت إدارة الرئيس باراك أوباما كثيراً. وفات أوان تلويحها باستخدام القوة. بدت عاجزة منذ اليوم الذي قرر فيه الرئيس فلاديمير بوتين ضرب وحدة أوكرانيا. أو أنها عزفت عن استـــخدام القوة. واكتفت باللجوء إلى سلاح العقوبات الذي لم يغن ولم يسمن. وتركت لفرنــسا وألمانيا التفاوض على التهدئة، وكان اتفاق مينسك. وفعلت الشيء عينه في الأزمة السورية. امتنعت عن أي تدخل ميداني فاعل. فالأميركيون، كما قال وزير الخارجية جون كيري، سئموا الحروب ولا يرغبون في إرسال أبنائهم للقتال في الخارج. وتذرع بغياب أي مسوغ قانوني دولي وداخلي لأي تدخل.
حتى المزيد من العقوبات الاقتصادية على روسيا لن يجدي ودونه عقبات. وبالتأكيد لن يتوقف الرئيس بوتين أمام تحذيرات وزير الخارجية البريطاني من أن بلاده قد «تصبح دولة منبوذة». الاتحاد الأوروبي قد لا يبدي حماسة كبيرة لتشديد العقوبات في وقت يدعو كثير من زعماء دوله إلى تخفيف تلك التي فرضت إثر أزمة أوكرانيا. ولا يرغب في مزيد من الاستفزاز لروسيا. وقد لا يخفي بعض هؤلاء القادة أن شهية بوتين المفتوحة على دول البلطيق وغيرها قد تتعزز إذا كان الغرب عموماً لا يملك ما يصد ويردع. فضلاً عن المرارة والاستياء في صفوف العواصم الأوروبية لاستبعادها من الخيار الديبلوماسي الذي نهجته واشنطن وحيدة مع موسكو من بدايات التدخل الروسي في سورية. الخطير في نهج الكرملين أن شهيته مفتوحة على شتى الاحتمالات. ولمَ لا وهو يراقب عجز القارة القديمة وانشغالها بتداعيات أزمة اللاجئين وصعود اليمين المتطرف وترميم التصدعات في اتحادها، وسياسة إدارة الرئيس أوباما بالنأي عن التدخل والمواجهة. بل هو يرغب في فرض واقع جديد في بلاد الشام. يستعجل شد أزر النظام في دمشق وإضعاف شتى فصائل المعارضة. وهذا وحده سيغير قواعد اللعبة، ويرسي التسوية التي ترغب فيها موسكو ولا يملك الآخرون، وحتى الرئيس المقبل في البيت الأبيض، سوى الرضوخ لشروطها.
ما يسعى إليه الكرملين هو سد كل الطرق أمام أي تسوية لأزمة سورية، فلا يعود مهتماً بشكل الإدارة الجديدة في واشنطن. يريد خلق معادلة جديدة. ويعلم تماماً أن لجوء الولايات المتحدة وغيرها من الدول إلى مدّ الفصائل المقاتلة بمزيد من السلاح الأكثر فاعلية قد لا يبدل كثيراً في سير المعارك. وحتى الأسلحة المضادة للطيران قد لا تكون لها الفاعلية التي كانت أيام حرب أفغانستان… هذا إذا سمحت واشنطن بمثل هذا التسليح. وهو أمر شبه مستحيل. ولا يشبهه سوى مطالبة الوزير سيرغي لافروف نظيره الأميركي بالتحرك لفك ارتباط «الفصائل المعتدلة» بجبهة «فتح الشام/ النصرة»، لأن كليهما يعرف تماماً أن هذه الخطوة تبدو مستحيلة. فلا المعارضة السياسية تملك القدرة على فرض هذا الفصل، ولا الفصائل المقاتلة مستعدة للمجازفة بخسارة «نصرة» تشكل إضافة وازنة في الحرب ضد النظام. بل تعتقد أن رضوخها شبيه بإطلاق النار على قدميها! وأبعد من ذلك إن هذه الفصائل تنظر بغضب إلى المجتمع الدولي العاجز عن وقف ما يجري وعن حماية السوريين وإغاثتهم. ولا تعفي الولايات المتحدة من مسؤوليتها هي الأخرى عما يجري من مآس، تماماً مثل روسيا. لذلك، قد تكون أكثر تمسكاً بالتنسيق مع «فتح الشام». ويخشى بعضها أن يكون سقوط حلب نذيراً بتحول كثيرين نحو التشدد، وتعميم سياسة «الجهاد».
لم تخسر الولايات المتحدة كل شيء في سورية، هي لم تبد أصلاً اهتماماً بضم هذا البلد إلى فضائها. على رغم ذلك ستظل حاضرة عبر «قوات سورية الديموقراطية» أو الكرد عموماً، وكذلك عبر الوجود التركي، ولكن لن تكون لها اليد الطولى. سيكون حضورها شبيهاً بحضور روسيا في العراق. كأنما ثمة تفاهم بين الدولتين الكبريين على تقاسم النفوذ… مع إيران وتركيا إلى حد ما، في كلا البلدين. في المقابل لا يعني تدمير حلب واستعادة النظام إياها انتصاراً كاملاً لموسكو. صحيح أن الكرملين لن يكرر تجربة أفغانستان، وسيتحاشى الغرق والاستنزاف إذا كان خصومه يروق لهم إغراقه في المستنقع السوري ومفاقمة أزمته الاقتصادية وضرب علاقاته مع جزء واسع من العالمين العربي والسني عموماً اللذين لن يغفرا له مشاركته في سياسة التدمير والتهجير والتغيير الديموغرافي. من هنا، الصحيح أيضاً أن حلب ليست غروزني وسورية ليست الشيشان، فلهذه وضعها وتاريخها الخاصان داخل الاتحاد الروسي، بخلاف بلاد الشام التي عدها العرب في أدبياتهم «قلب العروبة»، وحتى تركيا العثمانية عدتها «درة تاجها». وتجربة روسيا في سورية قد لا تكون أكثر نجاحاً من تجربة الولايات المتحدة في العراق، فهذه نشرت أكثر من مئة وسبعين ألف جندي ولم تجد مفراً من الخروج بعد نحو أربعة آلاف قتيل وأكثر من ترليون دولار تكاليف الحرب. فهل تملك موسكو هذه القوة الفائضة عما كانت واشنطن تمتلك، ولا تزال؟ حتى إيران التي باتت تمسك بتلابيب السلطة في بغداد من سنوات، لم تستطع إخضاع بلاد الرافدين وفرض الأمن والاستقرار فيها، واستغاثت بروسيا خوفاً من انهيار نظام الرئيس الأسد.
فات أوان الخيارات المفتوحة أمام إدارة الرئيس أوباما. كثيرون من أركانها كانوا ولا يزالون يعارضون أي تدخل ميداني، أي أنهم يرفضون اللجوء إلى استخدام القوة. توافرت لهم من بداية الأزمة أكثر من فرصة ولم يستغلوها، فهم يتذرعون بأن التدخل المبكر أو تسليح المعارضة كان سيفضي إلى النتيجة ذاتها، كما برر الوزير كيري، ويتذرعون أيضاً بعدم الرغبة في تكرار تجربتي العراق وليبيا، حيث روسيا والآخرون يحملونهم مسؤولية الاضطراب والتشظي والفوضى التي تنهش بهذين البلدين. ولا يعدمون الحيلة في سَوْق كثير من الأعذار لانكفائهم عن الانخراط الفعلي والحاسم في سورية يوم لم يكن هناك وجود لا لجبهة «النصرة» ولا لتنظيم «الدولة الإسلامية» ولا للتدخل الروسي. ولا شك في أن مصير حلب لا ينفصل عن مصير الرقة والموصل ومحافظة نينوى كلها. مآل الحرب على «دولة أبي بكر البغدادي» معلق على ما سيخلفه تحرير هذه الدساكر من واقع جديد. لا غرو أن الانتصار العسكري متوافر على «داعش» في أراضي «دولتها».
ولكن ماذا إذا كان مصير عاصمة الشمال السوري كغيرها من المدن والأرياف التي أفرغت من سكانها؟ وماذا إذا ملأت الميليشيات الكردية الفراغ في أرض الرقة؟ أو إذا اندفعت ميليشيات «الحشد الشعبي» و «البيشمركة» إلى الموصل بعد تحريرها؟ هل تنتهي الحرب على الإرهاب في تحقيق مصالح هذه الدولة وتلك على حساب أهل البلاد؟ إسقاط حلب لن ينهي الأزمة في سورية. وتحرير الموصل والرقة لن ينهي ظاهرة الإرهاب. اللهم إلا إذا تضافرت إرادة الكبار، دوليين وإقليميين وانتهت الصفقة إلى ترسيم جديد للمشرق، وتعديل للخريطة التي رسمها قبل قرن السيدان فرنسوا جورج بيكو ومارك سايكس. وحتى هذا الحل يستلزم مزيداً من الدم ويستدعي زمناً غير قصير. ولن يرسخ استقراراً ناجزاً أو دائماً في الإقليم بمقدار ما يؤسس لحروب مقبلة أشد ضراوة وعنفاً. فهل هذا في حساب القوى المتصارعة على مدن الشام وأرض الرافدين؟
جورج سمعان – الحياة[ads3]
بلاد الشام أصبحت رقعة شطرنج وهم يلعبون بها تارة ضامة أو شطرنج أو دومينو وأحيانآ منقلة والمنقلة لعبة حصى يعرفها أبناء سوريا بالعربي الفصيح اللعبة أكبر من جميع الأطراف الاقليمية أكبر من الجزّار بشار وأكبر من حسن نص ليرة وأكبر من الملالي وأردوغان