توازنات ما بعد حلب و خيارات المعارضة
أظهرت إنجازات بوتين ضعف النظام الدولي الذي أخذته العولمة إلى أن يتعاطى مع الأزمات الناشئة في العالم من زاوية المصلحة الاقتصادية، وفي تغييب كامل للقيم والمبادئ التي تأسّست عليها الأمم المتحدة.
لكن بين ما أراده بوتين وبين نتائج معركة حلب الفعلية مسافة بعيدة، خاصة إذا ما تحدثنا عن تخلٍ أميركي مقصود وصل إلى حد التفاهم معه أحياناً كثيرة، وعن زحزحة تركية في إطار التموضع الاستراتيجي سمحت بسقوط حلب في إطار التفاهم على ما بعد هذا السقوط. وإذ يظهر دخول تركيا على خط التفاهم مع الروس مُنافِساً للشراكة الحصرية مع إيران، يبقى السؤال عن المدى الاستراتيجي الذي تستفيد به روسيا من معركة حلب، إضافة إلى المدى الزمني الذي يسمح لها باستثمار ذلك.
والأهم من معركة حلب هو أن ينجح بوتين في أخذ تركيا إلى مكانة تضعها في الوسط بين موسكو وواشنطن أو بين حلفي الأطلسي وشنغهاي، خاصة في الفترة الفاصلة قبل تسلم الإدارة الأميركية الجديدة وتبيان سياساتها تجاه تركيا التي تخوض «حرباً حقيقية» مع إدارة أوباما وأجهزتها الاستخبارية، وذلك بالاستفادة من الشراكة الروسية التركية التي تفرض سياقاً جديداً للوقائع: فمن ناحية هي تُوازن الحضور الإيراني في المسألة السورية، ومن ناحية ثانية تضعف الموقف الأوروبي والمبادرات التي تقوم بها في الساحة الشرق أوسطية وتُبَدّي خيار الأستانة على جنيف.
قد تبدو مسألة حلب تفصيلية جداً أمام إمكان تحول استراتيجي في الموقف التركي إذا لم تستدرك إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب أخطاء الإدارة السابقة وتعيد ترميم العلاقة مع تركيا.
في الميدان، فإن المقروء على صعيد الإنجاز الروسي هو ربح حلب وخسارة تدمر في الوقت ذاته، ما يعني ربح العراضة السياسية والمعنوية وخسارة الفعل الجدي في محاربة الإرهاب. إضافة إلى تقديم إنجازات موقتة وغياب الفعل المستدام الذي يحتاج تسوية سياسية حقيقية ومتكافئة.
أما بالنسبة إلى المعارضة السورية، فإن حلب ليست آخر المطاف، وهي أساساً لم تعتبرها أم المعارك، بعكس جماعة الممانعة، بل واحدة من سياقات الثورة السورية. لكن السؤال الذي يُطرح على تركيا بعد معركة حلب هو: هل أن نموذجها في إدارة المعارضة السورية التي ظهرت ملامحه أثناء معركتي حلب ودرع الفرات يؤهلها لكي تمسك بمفاصل الحل السياسي بالتكافل مع روسيا، أم أن قوى الثورة ستبحث عن نماذج أكثر فاعلية يكون هدفها ترميم التوازن قبل الذهاب إلى أي مفاوضات؟ وهل تعتمد موسكو على قدرة تركيا الإمساك بالقرار السياسي للمعارضة لتقديم تنازلات جدية.
طبعاً هذه الأسئلة تفسح المجال للاعتقاد بأن الصفقة التي أدارتها تركيا مع روسيا لا تؤهلها لامتلاك زمام القرار المعارِض على المدى البعيد، وأن استراتيجيتها في إبعاد روسيا عن إيران لا يمكن أن تنجح من دون تنسيق ذلك مع الولايات المتحدة، كما أن مسار الأستانة فيه كثير من المغامرة في حال لم يتلازم مع حصانة دولية وإقليمية كافية.
وبغض النظر عن ذلك كله، فالأهم بالنسبة إلى المعارضة أن لا تنجرّ إلى جلد الذات وتُلقي بالمسؤولية على التوجهات الإسلامية في البيئة الحاضنة لها. فالإسلاميون موجودون قبل الثورة وبعدها، إنما التصور السياسي الوطني هو المقياس الذي تُحاسب عليه قوى الثورة.
وبالتالي، فالحد الأدنى لخيارات المعارضة في المستقبل يبقى أن لا تُسلّم بشرعية بشار الأسد، ولا تعطيه هذه الشرعية بالقوة، وأساساً هي لا تستطيع فعل ذلك، لأنه يرمي بكل التضحيات التي قدمها الشعب السوري لحد الآن، وهي تضحيات يستحيل تجاهلها.
وخيارات الروس السياسية هي الأخرى في مأزق، فالحديث عن انتخابات لتحديد مصير الأسد يصبح بلا معنى بحكم التحولات الديموغرافية التي أفرغت المدن من سكانها الأصليين. مشكلتهم مع الأمم المتحدة كبيرة، هم لا يستطيعون القول إن حضور قاسم سليماني في حلب أهم من حضور المراقبين الدوليين، ومشكلتهم مع العرب أكبر، إذ لا يستطيعون تحطيم وفتح مزيد من المدن العربية أمام الحشد الشعبي السيئ الصيت، حينها يصبح وجه روسيا في المنطقة فاقعاً مذهبياً!
حلب ذهبت ضحية الفراغ القاتل لانتقال الإدارة الأميركية وتواطؤ أوباما مع طهران وموسكو، والمعارضة قامت بما استطاعته في ظل التخلي الكامل عنها، أما المنافحة وتكبير الإنجاز الروسي ليصل إلى حد تغيير النظام الدولي، فهو ليس واقعياً البتة. روسيا لم تنجح بذلك لولا المصالح المشتركة التي جعلت العرب والأتراك يغضون النظر عنها ويمتنعون عن إمداد الثوار بالعتاد الضروري لتحويلها حرب استنزاف. وهي مفارقة لا بد من ملاحظتها حين رفع الكونغرس الأميركي الحظر عن توريد الأسلحة للمعارضة السورية، ولو بالشكل، في حين بقي هناك مَن ينتظر ضوءاً أخضر من إدارة أوباما الآفلة.!
بهاء أبو كروم – الحياة[ads3]