شبح عودة ” البوليس السري ” يثير المخاوف في ألمانيا
قبل 9 شهور من الانتخابات التشريعية، فتح وزير الداخلية الاتحادي الألماني، توماس دي مزيير، باب الجدل على مصراعيه، باقتراحه خطة لإصلاح أجهزة الأمن في البلد الأوروبي، الذي شهد قبل أسبوعين هجوما داميا على أحد أسواق أعياد الميلاد.
خطة دي مزيير تقوم على انتزاع سلطات الأمن وجمع المعلومات الاستخبارتية من الأقاليم وتركيزها في يد سلطة مركزية، وهو ما يراه منتقدون، من المعارضة والائتلاف الحاكم، تهديدا للحريات المدنية والنظام الفيدرالي، الذي ترسخ في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945).
ومنذ إعلان هذه الخطة، في مقال نشره دي مزيير بصحيفة “فراكفورتر الجماينه” واسعة الانتشار، الثلاثاء الماضي، تتصاعد الانتقادات لاسيما في بلد عانى لعقود من ويلات السلطة المركزية في عهد النازي(1933-1945)، وحكم الحزب الشيوعي لألمانيا الشرقية(1945-1990) قبل الوحدة.
إلا أن إعلان نائب المتحدث باسم الحكومة الأربعاء الماضي، بأن المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، تؤيد الخطة مبدئيا، فتح الباب أمام مرحلة من الجدل السياسي، وربما إعادة تأسيس الرؤية الأمنية لمواجهة تحديات راهنة ومستقبلية.
تقليص سلطات الأقاليم
خطة وزير الداخلية الألماني تقترح انتزاع السلطات الأمنية والاستخباراتية من الأقاليم، وأن تحل وكالة استخبارات واحدة على المستوى الوطني محل أجهزة الاستخبارات الإقليمية، إضافة إلى تأسيس جهاز شرطة فيدرالي، بدلا من المكتب الفيدرالي للتحقيق الجنائي، ومنح الحكومة سلطات واسعة لترحيل طالبي اللجوء المرفوضين.
وهي إجراءات يرى دي مزيير أنها ضرورية لتحقيق الأمن والاستقرار في أوروبا عامة، مشددا على أن “أمن الدولة يجب أن تتحكم به الدولة”.
ودعما لتلك الخطة، قال نائب المتحدث باسم الحكومة الألمانية، جورج شايتر، في بيان، إن “المستشارة (ميركل) كانت قد أعلنت أن الوزير الاتحادي دي مزيير سيقدم مقترحات لتحسين الأمن الداخلي، وشجعته على ذلك”.
المتحدث تابع قوله: “نحن نعيش حاليا في فترة تحديات جديدة، والسؤال الرئيسي هنا يتمثل في: ما هي الردود المناسبة على تلك التحديات (؟).. وليس السؤال عما إذا كان إدخال تغييرات تنظيمية مناسبا أم لا(؟).. رفض واستبعاد كل شيء بشكل قطعي من البداية لا يمكن أن يكون الطريق الصائب. ومبدئيا تدعم المستشارة وزير الداخلية الاتحادي بشكل واضح”.
تقويض للبناء الأمني
بيان الدعم الرسمي، ولو بشكل مبدئي، جاء وسط عاصفة من الانتقادات من أحزاب في الائتلاف الحاكم والمعارضة لخطة وزير الداخلية، إلى حد وصفها بأنها “تقوض البناء الأمني اللامركزي، الذي أنشئ بعد الحرب العالمية الثانية، كنتيجة لمعاناة الشعب الألماني في ظل أجهزة النازية الأمنية”.
خطة دي مزيير، وفق مراقبين، تأتي بعد تزايد الانتقادات لأجهزة الأمن الألمانية، التي تتسم بالتشظي وضعف التنسيق البيني؛ ما يمكن الإرهابيين المحتملين، وبينهم المشتبه به في هجوم برلين الأخير، أنس العامري، من تفادي المراقبة.
وبحسب صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، فإن ألمانيا تعرضت لضغوط من حلفائها الأمريكيين والبريطانيين، لتحسين أجهزة استخباراتها لمواجهة “المتطرفين الإسلاميين”.
وكل ولاية من الولايات الـ16 التي تشكل جمهورية ألمانيا الاتحادية، تمتلك أجهزتها الاستخباراتية الخاصة، وتحت ما يعرف بمبدأ “توازن السلطات”، تملك الولايات سلطة كاملة فيما يتعلق بالسياسات الشرطية والتعليمية والثقافية.
أدولف هتلر جديد
لكن عراقيل عديدة تواجه اعتزام الحكومة الألمانية تنفيذ خطة إصلاح النظام الأمني، الذي فرض عليه الحلفاء “النمط اللامركزي”، عقب الحرب العالمية الثانية؛ لمنع ظهور أدولف هتلر جديد، ولاقى تأييدا من الشعب الألماني؛ لما عاناه الألمان تحت وطأة سلطة مركزية متعسفة.
ومنذ إعادة توحيد شطري ألمانيا عام 1990، طُرحت أكثر من مرة مقترحات لإصلاح الأجهزة الأمنية في ألمانيا، غير أنها لاقت معارضة كبيرة في كل مرة، وفق صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية.
ومنذ أيام، يلاقي مقترح دي مزيير معارضة كبيرة من أحزاب في المعارضة، وأخرى في الحكم، منها حزب الاشتراكيين الديقراطيين (ممثل يسار الوسط وثاني أكبر حزب ألماني)، فضلا عن بعض الوجوه داخل الائتلاف المحافظ، بقيادة ميركل.
“لاقيمة لها”
بيتر باوتيه، وزير داخلية مقاطعة هيسن، والسياسي البارز بالحزب الديمقراطي المسيحي الذي تقوده ميركل، اعتبر أن خطة وزير الداخلية الاتحادي “لا قيمة لها”.
باوتيه، وفي بيان الثلاثاء الماضي، أضاف أن “الخطوات المتسرعة مثل هذه المقترحات، لا تقوض فقط ثقة المواطنين في الدولة، بل تضع البناء الأمني الفيدرالي موضع تساؤل وضغط”.
فيما اعتبرت يولا يالبكا، الخبيرة الأمنية والسياسية البارزة في حزب اليسار، أن هذه الخطة تمثل “اعتداء مباشرا” على المبادئ الفيدرالية، التي وضعت لمنع أي تركز للسلطات في يد السلطة المركزية بعد سقوط النازية.
حزب الاشتراكيين الديمقراطيين، المشارك في الائتلاف الحاكم، والذي يجب أن يوافق علي أي مشروع قانون لتمريره في البرلمان، انتقد كلا من الحزب الديقراطي المسيحي، وحليفه حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي (يمين وسط)، لتركيزهما، وفق تقديره، على مشروعات قوانين “مثيرة للجدل”.
سيغمار غابريل، قائد حزب الاشتراكيين الديمقراطيين، نائب المستشارة، دعا، الثلاثاء الماضي، إلى الحفاظ على التماسك الاجتماعي عبر التركيز علي دمج الأقليات، داعما اتخاذ لإجراءات أمنية “محدودة”.
غابريل مضى معتبرا أن “دي مزيير يرتكب خطأ كبيرا”، بإعلانه خطة تنتزع سلطات الأقاليم لصالح السلطة المركزية، بحسب ما نقلته صحيفة “دي فيلت” اليمينية.
وبدوره، حذر الخبير في السياسات الأمنية في ألمانيا، كريستيان موليجش، من “تجاهل الدور الذي لعبه الماضي في تشكيل توجهات الألمان بشأن السلطة المركزية”، مضيفا، في حديث لـ”نيويورك تايمز”، أنه “يجب أن يبقي في عقول الجميع أن هذا البلد لديه خبرة كبيرة في الديكتاتوريات، وبالتالي فإن فئة كبيرة من المجتمع لا تتمني أن تري عودة البوليس السري الذي كان جزءا من حياتهم اليومية”.
قلق الناخبين
أما أستاذ العلوم السياسية والخبير في الشئون الألمانية، دانيل هيملتون، فقال للأناضول إن “ألمانيا تحاول الموازنة بين البناء الاستخباراتي اللامركزي، الذي جرى تأسيسه نتيحة لسوء استغلال السلطة المركزية في عهد النازي، وبين حاجتها للتعاطي بنجاعة مع التهديدات الراهنة والمستقبلية، التي تتطلب أجهزة استخباراتية أكثر تماسكا وكفاءة”.
هيملتون تابع بقوله إن “خطة دي مزيير هي محاولة لمواجهة التحديات الأمنية الراهنة والمستقبيلة، وإعادة تموضع لألمانيا كي تتعامل بكفاءة معها.. فشل التعاون الاستخباراتي، ليس فقط داخل ألمانيا، لكن أيضا بين الدول الأوروبية، وهذه مشكلة كبيرة يريد معظم مواطني الاتحاد (الأوروبي) وضع نهاية لها”.
لكن هيملتون عاد وقال إن “هناك تخوفا من تأثير خطة دي مزيير علي الحريات المدنية، وأتوقع أن تمثل محورا مهما في الحملات الدعائية للانتخابات التشريعية (سبتمبر/ أيلول المقبل)، لكن يبدو أن ميركل ودي مزيير يستجيبان للناخبين القلقين من مستوي الأمن، وبالتالي ستساعدهم الخطة في الانتخابات أكثر مما ستضرهم”.
وبعد هجوم الشاحنة في برلين، الذي أسقط 12 قتيلا و48 جريحا عبر دهسهم، أظهر استطلاع للرأي، نشرت الإذاعة الألمانية نتائجه يوم 26 ديسمبر/ كانون أول، أن غالبية الألمان يؤيدون اتخاذ إجراءات أمنية إضافية لحفظ الأمن، حيث أيد 60% زيادة عدد كاميرات المراقبة، و73% زيادة قوات الشرطة، وهو ما يعكس قلق الغالبية من المسألة الأمنية. (ANADOLU)[ads3]