سوريا بين الخروج السوفياتي و الانتداب الروسي

لنفترض أن هناك ضغوطاً سياسية أو عسكرية نجحت في إخراج روسيا وأتباعها من سورية، ولنفترض أن الدول التي مارست الضغوط السياسية أو دعمت الضغوط العسكرية هي من تولت رعاية المكوّنات السورية (السياسية والمسلحة) بعد خروج الروس! ما هو السيناريو المتوقع للمستقبل السوري؟

هل ستتحول سورية إلى واحة سلام؟ هل سيرمي الجميع السلاح ومخازن السلاح ويذهب مباشرة إلى قوائم الانتخابات وصناديق الاقتراع؟ هل ستنعم البلاد بحكم ديموقراطي يُنسي أهلها عذابات السنوات الست الأخيرة، وإحباطات العقود الخمسة الماضية؟

التاريخ لا يتكرر، لكنه ينعطف المنعطفات نفسها بين وقت وآخر، فما هو يا ترى «المنعطف المكرر» الذي قد يمر به تاريخ سورية مستقبلاً؟

أفغانستان، الدولة الآسيوية المقفلة فقيرة الموارد، دخلها السوفيات عام 1979 داعمين للنظام الموالي لهم في كابول، وخرجوا منها عام 1989 بضغوط سياسية دولية وضغوط جماعات مسلحة محلية بدعم من أميركا ودول أخرى. دخلوها بحجة حماية نظام وطني في نظرهم، عميل في نظر الأفغان، وخرجوا منها لحماية نظامهم في موسكو، الذي بدأت تظهر عليه التصدعات. عقد كامل وهم على التراب الأفغاني، فماذا كانت النتيجة؟

خلال عشر سنوات 1979-1989 تغيّرت طبيعة الشخصية الأفغانية. وتخلى المجتمع المحلي عن ازدهاره وتنوعه وفنونه وثقافاته المتعددة و (تشككه الإبداعي). تخلى عن ألوانه وراح يسير بخطى (الجاهل الذي يؤكد) إلى اللونين الأبيض والأسود. انقلبت الحال الأفغانية رأساً على عقب، وذهبت الأرض المقفلة قبل 1979 إلى سجلات التاريخ، وخُلقت أرض جديدة بمزايا وصفات جديدة!

قد يسأل قارئ: هل هذا التغيير ضد مسار الزمن؟ هل هو حال معزولة عن «علم اجتماع الحروب» و «ثقافة الاضطرابات المزمنة»؟ الجواب بالطبع لا، فما حدث في أفغانستان أمر متوقع، لكن السؤال المقابل لهذا الجواب هو هل نجحت أميركا في إعادة الشعب الأفغاني إلى طبيعته الأولى وساعدت في نمائه وازدهاره من جديد وحوت حيرته وضياعه بعد حروب السنوات الـ10؟ هل ساهم المنتصر على الأرض في ترميم ما خلفه انتصاره؟ هل مارست دورها الأخلاقي الذي جاءت من أجله كما أدعت؟

صحيح أن أميركا ومن خلفها العديد من دول العالم سهامت في إخراج السوفيات من أفغانستان لكنها إثر ذلك تركته وحيداً في مواجهة مصيره الأسود! سحبت كبريائها وغرورها من المنطقة وذهبت إلى مناطق أخرى في العالم! كان همها الرئيس تفويت الفرصة على السوفيات في الاستفادة من موقع قدم في آسيا الوسطى، وتحقق لها ما أرادت ثم أدارت ظهرها للمحرومين والفقراء والبائسين على الأرض، ما أنتج حرباً أهلية ما زالت تشتعل حتى اليوم!
خرج السوفيات مهزومين على وقع طبول انتصار أميركي، ودخلت أفغانستان من ذلك الحين في دوامة لا تنتهي.

على طرف الصدفة التاريخية المقابلة، تعيش سورية اليوم تحت رعاية القيصر الروسي غير المباشرة منذ الـ15 من آذار (مارس) 2011، وتحت احتلاله المباشر منذ الـ30 من أيلول (سبتمبر) 2015. جاءت القوات الروسية لدعم النظام الموالي لها في دمشق، متحدية الشعب السوري أولاً، ومنظمات العالم الأممية وغير الأممية ثانياً، وعدداً كبيراً من دول العالم على رأسها أميركا ثالثاً. وبقيت منذ ذلك الحين متحكمة وحدها على الأرض السورية، فهل من الحكمة في هذا الوقت أو المستقبل القريب أن يتم الضغط على روسيا عبر قنوات عدة للانسحاب من سورية في وجود هذه القوى العبثية والمتضادة على الأرض أم أن الواقع السياسي يفرض على المحبين لسورية والداعمين وحدتها وصمودها أن يعيدوا استذكار التاريخ الأفغاني القريب؟

روسيا ستخرج عاجلاً أم آجلاً. هذه مسألة منتهية، ويبقى على القوى الإقليمية في المنطقة المعنية بعذابات الشعب السوري والصديقة للكرملين أن تضغط من أجل تأمين خروج ناجح للروس يختلف تماماً عن طريقة خروج السوفيات من أفغانستان. لا بد من أن يخرجوا بطريقة تُبعد أميركا تماماً من المشهد أولاً، وُتحصّن الشعب السوري ضد الانزلاق في فوضى الفراغ الأمني المفاجئ ثانياً!

في الحال السورية لا تُمكن القوتين العظميين أن توجدا حلاً مشتركاً واحداً. فعلى رغم أن الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب يقول في كل سانحة إن علاقته جيدة بقيصر روسيا فلاديمير بوتين، وعلى رغم الإشارات الديبلوماسية التي ترشح بين حين وآخر بين البلدين بإمكان الاتفاق حول الملف السوري، إلا أنه لا أحد على هذه الأرض يؤمن بإمكان حدوث واستمرار الشراكة الروسية الأميركية للأبد. هذا أمر يخالف السنن الكونية ويتعارض مع نظريات توازن القوى عبر التاريخ.

إما أن تخضع روسيا لأميركا أو أميركا لروسيا ويعيش العالم في قطبية واحدة، وإما أن تتضاد القوتان العظميان لتوازنا روح العالم، وإما أن تميل روسيا باتجاه أميركا لتوازن الدولتان وجود الوحش الصيني في الطرف المقابل، وهذا أمر مستبعد في الوقت الحالي. أما أن تتفق الدولتان العظميان في مثل هذه الظروف التي نعيشها كما يقول ترامب فهذا أمر مستحيل، وسيخضع للاختبار قريباً… ويفشل!

ستعود أميركا بعد أشهر قليلة وربما أسابيع لمناكفة روسيا في المنطقة والالتفاف من جديد حول القوى الإقليمية لتأمين خروج روسي ذي طابع سوفياتي، ثم ستدير ظهرها من جديد للمنطقة وتبحث عن صراعات أخرى جديدة في العالم من أجل إدارتها وصرف أرباحها في العمق الأميركي.

اجتماع آستانة كان فاتحة الحلول، وبقي أن يصنع محبو سورية وأصدقاؤها أدوات ضغط فاعلة تجبر الروس على فرض حكومة سورية جديدة مقبولة شعبياً، وتولّي رعايتها وتأمين حضورها محلياً وأممياً ومحاربة أعدائها في الداخل حتى القضاء عليهم وإعادة السلم من جديد بغطاء رعوي دولي.

ليذهب بشار الأسد أولاً (هذه مسألة غير قابلة للمزايدة) ولتبقى روسيا في «حال انتداب» لأجل مسمى ثانياً، ثم ليخرج بعد ذلك القيصر بعد أن يحقق مطلبين مهمين: إبعاد الأميركي وتأمين الحكومة الجديدة ضد منزلقات الحرب الأهلية!

هل هذا هو الحل الأكثر صحة والأكرم أخلاقاً؟ لا… لكنه الحل الأمثل.

عبد الناصر العتيبي – الحياة[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

‫3 تعليقات

  1. بدون مساعدة روسيا لكانت سوريا معقل الارهاب الاسلامي. منذ بداية الأزمة في سورية واستعصاء إسقاط الدولة ورئيسها على الطريقة التونسية أو المصرية، وروسيا شريك في القرار الدولي الصانع للسياسة والحرب في سورية، بداية بالفيتو المعطّل للغطاء الدولي الذي يحتاجه الأميركي لجعل الحرب مباشرة، ونهاية بالانتشار والتموضع العسكري الروسي في سورية والبحر المتوسط. ومنذ خمس سنوات عملياً تاريخ أول تصويت على المشروع العربي لإسقاط سورية بالفصل السابع وسقوطه بالفيتو الروسي الصيني، والبعد الدولي المتعاظم للحرب في سورية وعليها يكبر ويسبق ويطغى على البعد المحلي فيها، ومكانة روسيا وأميركا كشريكين قائمة، لحدّ أن تحرك الأساطيل الأميركية نحو توجيه ضربة لسورية لم يكمل طريقه بسبب الفيتو الميداني لصواريخ روسية قالت إن الاحتمالات كلها مفتوحة، فعادت الأساطيل لكن محملة بماء وجه مَن أرسلها بعدما حفظه له الروس بحلّ سياسي ينتهي بتخلي سورية عن سلاحها الكيميائي.

  2. المزيد من التحليل الخاطىء انتهى عهد الحرب الباردة والسيطرة على العالم ولو بدها اميركا كانت تدخلت من زمااااان قبل روسيا ، فالجربا راح بسلو طيزو لاوباما وباعوا سوريا على بياض وما بدهون ، تفكير بوتين قديم مثل الايراني لم يتغيروا بتغير الزمن ، فحديفعوا سعر بقرة لياخدوا دجاجة ، دولة منتوفة محلوبة ما فيها شي اصلاً يتاخد ولا حتى مواد اولية

  3. الكاتب العبقري يعتقد أن نتائج الحروب هي كما حدث في أفغانستان وما سيحدث في سوريا. ويعتقد أن أمريكا لم تلعب درواً أخلاقياً لإعادة التنويع الثقافي. الواضح أن الكاتب لم يطلع على نتائج الثورات والحروب القديمة (الثورة الفرنسية – الانكليزية الأمريكية – الروسية – الإيرانية … الحرب العالمية الأولى والثانية الحرب بعد الثورة الفرنسية وبعد توحيد ألمانيا و….) المهم في الموضوع عدم التدخل الخارجي عندما يكون الخارج قوياً جداً مقارنة بالداخل فلم ينجح الأجانب بفرض أجندتهم على ألمانيا أو فرنسا أو روسيا أو… ولكن أمكنهم فرضها على أفغانستان ويمنكهم فرضها في سوريا لو ابتعد الأميركان عن أفغانسان بضعة سنوات لازدهرت واغتنت لكنهم كانوا وراءها دائما لتدميرها لأنهم خافوا من تطور الأمر إلى ما لا يستطيعون تحمله.