كتاب لمصور ألماني عن أطفال سوريا يصبح من بين الأكثر مبيعاً في ألمانيا و أوروبا
كان يقف عند نافذة مكتب الصحيفة التي يعمل لحسابها في قلب العاصمة الألمانية برلين التي حل بها برد شديد، وهي الحالة المتعارف عليها عادة في مواسم الشتاء الطويلة في المدينة.
تأمل عميقا مشهد صفوف اللاجئين السوريين القادمين إلى ألمانيا بحثا عن نجاة لأنفسهم ولأطفالهم وهروبا من قساوة الحياة ومن المعاناة اليومية المتكررة في مخيمات اللجوء لدى دول الجوار.
طال وقوفه وامتد نظره ليتجاوز الصورة كما تلمسها العين في العادة، لكن زاوية الصورة وبحكم عمله الطويل في مهنة التصوير الصحافي هي التي شدت انتباهه وحركت مشاعرة في هزة غير مسبوقة.
تأمل أولئك الأطفال الذي يتمسكون بأطراف أثواب أهاليهم بعيون ناظرة إلى الأفق البعيد ولا تأبه لتلك التفاصيل التي تشكل اللحظة في المكان قد تشغلهم كما تكفيهم حبة حلوى من يد عابرة على الخد من الأم أو الأب أو حتى الشقيقة العامرة محبة وسكينة رغم الاضطراب الذي يهز النفوس جميعا كأفراد أو كجماعات في ذات المشهد.
إنهم هؤلاء الأطفال الذين وجد نفسه ينساق للحظة مشاعر متدفقة وينطلق باتجاه عائلاتهم مباشرة، عارضا عليهم المساعدة في سؤال مباشر سيكون قاسيا جدا على قلبي يقول وهو يخاطب الأب السوري المنكمش على أطفاله الأربعة أن تقضوا هذه الليلة الباردة في هذا العراء فأنا لا أعرفكم وأنتم لا تعرفونني، لكننا نتشارك في الإحساس بالأمان وبالبرد في هذه الليلة القاسية.
لذلك فأنا أدعوكم لقضاء الليلة في بيتي وغدا صباحا لكم أن تعودوا إلى هذا المكان لتكملوا إجراءات تسجيلكم وعندما تنتهون لكم الخيار في أن تعودوا إلى بيتي أو أن تذهبوا إلى أي مكان آخر تختارونه لأنفسكم.
كانت هذه اللحظة التي ستغير حياة المصور الألماني ديفيد سوونا تنغ وإلى الأبد وهو يختار بإرادة واعية أن تكون قضية دعم الأطفال السوريين قضية لحياته المهنية والشخصية، ليتحول لاحقا إلى صوت مدافع عن هؤلاء في جهات عدة من العالم ومنها زيارته لواشنطن للترويج لكتابه الذي كتبه عن قصة 40 طفلا سوريا لجأوا مع عائلاتهم إلى المانيا وصنعوا معه هذا المؤلف الذي أصبح واحدا من الكتب الأكثر مبيعا في ألمانيا وأوروبا وحاليا هنا في واشنطن.
إنها لحظة لا تشبه اللحظات الأخرى في حياته كإنسان يقول هذا المصور المحترف وهو يهديني نسخة من كتابه بعد حديثنا هنا في واشنطن عن التجربة ومعانيها في حياته.
ديفيد الذي لم يكن يملك أية خلفية عن حياة هؤلاء الأطفال قبل لحظة النافذة تلك، انخرط معهم بالكامل في يومياتهم وبات هو الدليل لعائلاتهم في برلين قصد مساعدتهم للحصول على أفضل صور المساعدة التي يمكن أن تمنح لهم من قبل سلطات المدينة.
لم تكن المشاعر الشخصية التي دخلت على حياة وشخص ديفيد وحدها هي الذي تغير في يومياته وفي رؤيته للأشياء من حوله ومن وراء ذلك في هذا العالم، إنما قيادته لتلك الحملة بين معارفه وأصدقائه في برلين لأجل استضافة مزيد من العائلات السورية في بيوتها في انتظار تجهيز سلطات المدينة الأماكن المخصصة لهؤلاء، وتقديم المساعدة الواجبة التي ستعين القادمين إلى ألمانيا على الأقل لتجاوز برودة موسم الشتاء القاسي والطويل بأيامه ولياليه وبعد ذلك هناك حديث آخر.
يقول ديفيد مازحا إن الصورة العامة المنطبعة في الأذهان أن الألمان عادة شعب بارد في مشاعره، لكنه يجد في تلك الاستجابة التي لقيتها دعوته في تلك الحملة صورة مناقضة تماما لهذا الانطباع.. بل إن هناك الكثير من سكان برلين من عرض المساعدة بأشكال مختلفة وكثير منهم استذكر محطات من التاريخ الألماني عندما وجدت عائلات المانية نفسها تبحث لنفسها ولأطفالها عن مأوى ما في مدينة ألمانية أخرى يظهر أن الوجود فيها أقل تهديدا لحياة اللاجئين إليها.
هكذا بدا كل شيء في هذه التجربة الفريدة من حياة ديفيد وأصدقائه وكثير من زملاء المهنة في برلين، لكن هذه البداية اختارت لنفسها أن تولد بدايات أخرى جديدة ومعها فكرة الحديث إلى هذه العائلات واستعراض قصة أطفالها وتقديمها للجمهور الألماني من خلال قصة الأطفال الصغيرة في تفاصيلها، والعظيمة في أحلامها والرغبة في الحياة الأفضل.
اختار ديفيد من بين عشرات الأطفال 40 طفلا يختلفون في قصصهم الشخصية وفي تفاصيل قدومهم إلى ألمانيا ومسارات لجوئهم إليها، لكنهم جميعا يشتركون في الهروب من المأساة والبحث عن فرص التعليم والحياة، والأكثر من ذلك جميعهم يحلمون بالحياة الأفضل.
كانت الكاميرا والحياة اليومية هي مساحة حدوث القصة الجديدة في برلين بين الأطفال والمصور الألماني، ومن يوم لآخر يقول تنتصر الابتسامة في هذه الوجوه وفي كل يوم جديد يزداد بريق الفرحة اتساعا وحضورا في عيونهم. وفي تلك اللحظة اتسع اليقين في نفس المصور المحترف وشركائه في هذا العمل الإنساني أن هناك قصة جيدة ستصل إلى الناس وتحقق الغرض منها ممثلا في جلب المزيد من اهتمام المجتمع الألماني بقصة هؤلاء الأطفال وتحقيق المزيد من القبول لفكرة مساعدتهم وتمكينهم من تحقيق أحلامهم في النجاح في الحياة كما يحلمون ويتطلعون لتحقيقه.
استمرت الرحلة ونجح الأطفال بشراكتهم النوعية في سرد قصصهم وبإعلان فرحهم الذي لا يقف عند حد كما يصفه ديفيد في حديثه الى جمهور واشنطن في رسم معالم هذا الكتاب الذي جاب مدنا عدة في ألمانيا وأوروبا ولقى الاستحسان الواسع من آلاف القراء لما احتواه من صور ولحظات مسجلة في صور فوتوغرافية لأطفال تحكي ملامحهم الكثير من الحكايا وتنقل الكثير من المعاني إلى الحد الذي جعلت كثيرا ممن يعرفون القليل عن قصصهم يطلبون المزيد عنهم ويسعون لتقديم أفضل ما يملكون من جهد وكرم يد لأجل تحسين أوضاع حياتهم الجديدة.
كان على ديفيد وهو يواجه التحدي الجديد في حياته أن يدعو زملاء له وأصدقاء في المهنة إلى الانخراط في هذا المسعى الإنساني الجمالي الذي اختار لنفسه ولم يكن الأمر معقدا ليجد إلى جواره كاي وايندفون مشجعا ومساهما في الفكرة والمشروع قبل أن يعلن هو الآخر تفرغه لمشروع الدفاع عن هؤلاء الأطفال وتمكينهم من شق طريق الحياة كما يحلمون بها.
كلاهما ديفيد وكاي حضرا إلى واشنطن بدعوة من معهد الشرق الأوسط للحديث عن هذه التجربة وتقديم كتابيهما عن الأطفال السوريين للجمهور الأميركي ذي الصلة بالأزمة السورية أو أولئك الذين لا يعرفون إلا القليل عنها، وهؤلاء هم الهدف الذي حدداه الاثنان للحديث إليهم والتعريف بفكرتهما التي اختارا الحياة معها ولآجلها في مدن عدة من العالم.
على مائدة غذاء أعدها المعهد لضيوفه قال لي ديفيد إن فكرته هو تقديم قصة هؤلاء الأطفال والتعريف بأحلامهم ومعاناتهم والقول لجميع الناس في أطراف العالم المختلفة إن هؤلاء الأطفال أطفال كبقية الأطفال الآخرين، يحبون الفرح ويحلمون في نهاية المساء ولديهم تطلعات وإن الفوارق التي يراها بعض الناس في اللغة وطريقة ممارسات العبادات واختلاف الأديان وعادات الحياة مسائل لا يجب أن تشغل الناس ولا أن تأخذ تفكيرهم بعيدا عن القضية الأساسية والتي هي مساعدة هؤلاء الأطفال الذين يعانون يوميا ويستحقون حياة أفضل.
في واشنطن انضم فنانون أميركيون آخرون إلى هذا المسعى، بعضهم من أصول عربية وآخرون من أصول متفرقة، لكن الذي كان حاضرا على الطاولة وفي مسعاهم جميعا هو المسألة الإنسانية المشتركة والتي تهدف إلى مساعدة الأطفال السوريين على استئناف حياتهم الطبيعية والحصول على ظروف عيش كريمة وتحقيق أحلامهم في الحياة بالصورة التي يتمنونها وتتمناها عائلاتهم وفي أي مكان من العالم يتواجدون فيه، والطريق إلى ذلك لن يكون إلا من خلال جهد جماعي يتشارك فيه جميع الناس وفي كل مكان بصرف النظر عن الاختلاف في أديانهم وأعراقهم.
كان لافتا على تلك المائدة ما قاله ديفيد وأنا أساله عما تعلمه هو شخصيا من هذه التجربة الإنسانية المزدحمة المعاني.. أخذ نفسا عميقا وقال لي إنه عبر ظروفا معقدة في علاقته الشخصية بعائلته لكن هؤلاء الأطفال الـ40 القادمين من سورية أعطوه عائلة ثانية هي عالمه الجميل الذي يملأ حياته في الوقت الحاضر، وإنه اختار وقرر أن يجعل من سعادتهم قضية لحياته وأكثر من ذلك إنه يملك الاستعداد الكافي ليقدم لهم أي عضو من جسده إذا كان هؤلاء الأطفال بحاجة إليه .. قال ذلك بعيون دامعة وبنفس متقطع!
رابح فيلالي – قناة الحرة[ads3]