بادن بادن الألمانية .. ” مدينة المسافات القصيرة ” تتفيأ في ظلال الغابة السوداء

تعشقها من النظرة الأولى، فتبهرك بجمالها وتأخذك إلى أحضانها لتقدم لك فردوساً ساحراً مختبئاً عند أقدام الغابة السوداء.

إنها بادن بادن «عاصمة المصايف الأوروبية» التي كلما تحملني أسفاري إليها أعود وأعيش حالة الفرح التي لامست وجداني عندما زرتها للمرة الأولى منذ ما يقارب العشرة أعوام. ومنذ ذلك الحين تولد حب الوفاء لزيارتها مراراً وتكراراً. وكيف لا! فهذه المدينة الصغيرة لا تخيب آمال زوارها. إذ بإمكانهم الارتماء في غمرة مياهها المعدنية الدافئة لمداواة العديد من الأمراض، وزيارة متاحفها المتنوعة التي تتباهى بعرض كنوز وممتلكات لا تقدر بثمن، والإقامة في فنادقها الراقية، وتأمل تلك الجبال الخضراء التي ستكرمكم بنسمات صيفية باردة ومشبعة برائحة الزهور العطرية القادمة من الغابة السوداء أو من المنحدرات والحدائق التي تزين وسطها.

هذه هي بادن بادن أو «أميرة الغابة السوداء» كما أحب أن أناديها. فمنذ أيام الرومان القدامى الذين اكتشفوا منافع ينابيع المياه المعدنية الدافئة فيها منذ أكثر من ألفي سنة، أصبحت بادن بادن مقصد السياح وملاذهم الأمين. وبمرور الوقت اكتسبت المزيد من الشهرة والسمعة الطيبة حتى غدت من أهم المدن الألمانية التي نقشت اسمها عالياً على خريطة السياحة العالمية.

تبدأ الرحلة في هذه المدينة المترامية في جنوب غرب ألمانيا من شارع «لشتنتالر اليه» المزنر بالأشجار العتيقة التي تستريح تحتها مساحات شاسعة من العشب الأخضر، والزهور المتعددة الأشكال والألوان ونوافير المياه. كل ذلك يجعل منه شارعاً أنيقاً يضج بالحياة في رحاب طبيعة غناء. ويخترق هذا الشارع عمق المدينة، ليصل بكم بعد عبور طريق خاص إلى فندق «ذي برينيرز بارك هوتيل وسبا» The Brenners Park-Hotel & Spa حيث تستوطن الراحة والرفاهية والخدمات المترفة. ويحافظ الفندق على مكانته المرموقة منذ أكثر من 140 عاماً كأفضل فنادق المدينة وملتقى طبقة النخبة.

وبسبب الشهرة الواسعة التي تحظى بها بادن بادن كإحدى أهم مدن الينابيع الدافئة حول العالم، فقد افتتح فندق «ذي برينيرز» عام 2015 فيلا «ستيفاني» Villa Stéphanie المجاورة له وتضم 12غرفة و3 أجنحة فخمة تشرف على حدائق ومناظر بهية. وتتميز بأنها ملاذ هادئ للباحثين عن الرعاية الطبية والصحية، وأيضاً للمهتمين ببرامج التغذية وتنظيف الجسم من السموم وضخه بكل ما يوفر لهم الطاقة والتوازن العاطفي.
وتفصل مسافة قصيرة فيلا «ستيفاني» عن فندق «راديسون بلو باديشر هوف» Radisson Blu Badischer Hof الذي كان ديراً للرهبانية الكبوشية، ثم أعيد بناؤه في القرن التاسع عشر ليتحول إلى أحد أهم فنادق المدينة نظراً للينبوع الحراري الذي يتدفق قربه ويمد حوض السباحة فيه بالمياه المعدنية الدافئة. وهذه المياه التي تتدفق من العديد من الينابيع المتناثرة في المدينة ستجدونها أيضاً في بعض غرف وأجنحة فندق «هيليوبارك باد هوتيل زوم هيرش» Heliopark Bad Hotel zum Hirsch الرابض في وسط المدينة وعلى مقربة من منتجع «كراكلا» Caracalla Spa الشهير الذي يقصده الآلاف سنوياً للاستمتاع بمياهه المعدنية الدافئة التي تصله من الينابيع الاثني عشر المتفجرة حوله، والتي تتراوح درجة حرارتها من 50 إلى 68 درجة مئوية طوال العام. ولهذه المياه المقدرة على معالجة الروماتيزم، وتنشيط الدورة الدموية، والعديد من الأمراض الجلدية.

وتشرع هذه المدينة الساحرة أبوابها لفنادق جديدة، ولذلك استقبلت عام 2016 فندق «رومرز بادن بادن» Roomers Baden-Baden الذي يحتضن 130غرفة بما في ذلك أجنحة أنيقة. كما يقصده كثيرون لتذوق المأكولات الآسيوية في مطعم «موريكي» Moriki أو للاستمتاع بالتراس الذي يتمادى على سطحه حيث يمكن احتساء المشروبات في بار «رومرز» الذي ينعم بإطلالة رائعة على الغابة السوداء. ومن عناصر الجذب فيه منتجعه الصحي الذي يحتل مساحة 500 متر مربع، وفيه ينعم الزوار بمجموعة من برامج الاهتمام بالنفس والجسد.

أينما جال السائح في بادن بادن سيلاحظ العلاقة الوطيدة بين المدينة والمياه التي كانت أحد الأسباب الرئيسية لتدفق السياح إليها. ففي مبنى «ترينكهول» Trinkhall الذي كان في السابق مركزاً لضخ المياه إلى المدينة، سيتعرف الزائر إلى هذا المكان المزخرف بأعمدة كورنثية الطراز، وجداريات ملونة برسومات من أيام الرومان القدامى. وعند ارتشافه مياه الشرب التي تتفجر من ينبوع يصب داخل المبنى، سيعلم أنه وهب جسمه مياهاً لها منافع صحية عديدة.

ومن المياه المنعشة ينتقل السائح إلى حديقة الورود «غونرانلاج» Gönneranlage الشامخة على إحدى الروابي والتي أسسها تاجر البُن هرمان سيلكن في بداية القرن العشرين تكريماً لزوجته. ستستقبلكم الحديقة بأريج الورود الذي يعبق في الأجواء فتخالون كأنكم تتنشقون قارورة عطر فاخر، وستشعرون وكأن الربيع لا يفك حصاره عن هذه البقعة التي هي مسرح مفتوح لورود متعددة الأشكال والألوان، ترسم في مكان ما أقواس نصر، وفي مكان آخر ستجدونها تقف وحيدة أو في حالة عشق وهيام مع الأشجار التي تسللت إلى أغصانها لتحفر في الذاكرة منظراً يصعب نسيانه.

من بين الألقاب العديدة التي تحملها بادن بادن يبرز لقب «مدينة المسافات القصيرة». فبالإمكان السير على الأقدام وسط الطرقات والأزقة المغمورة بالأشجار والزهور وزيارة كافة معالمها الجميلة واستكشاف شوراعها التي تصطف على جانبيها المطاعم والمتاجر التي ترضي جميع الأذواق الميزانيات كافة. وقائمة المطاعم في بادن بادن طويلة ويبرز منها المطعم الموجود في فندق «ذي برينيرز» الذي يحمل نجوم ميشلين، ومطعم «لي جاردن دي فرانس» Le Jardin de France الذي يتمتع بشعبية كبيرة. فكل الباحثين عن الأطباق الفرنسية وخصوصيتها يعرفون مقصدهم.

وتقدم المدينة خيارات واسعة للبرامج الثقافية والحفلات الموسيقية التي تصدح في صالة «فيشتبيل هاوس» Festpielhaus التي تعد أكبر صالة لحفلات الأوبرا والمهرجانات الموسيقية في ألمانيا. وتتباهى بأنها تقدم أكثر من 150 عرضاً فنياً سنوياً، وهي تستوعب أكثر من ألفي شخص. وتستقطب الصالة أهم الأسماء البارزة في عالم الغناء. فأي عرض فني على خشبة مسرحها هو بمثابة تكريم وتقدير للمواهب الفنية. وعلى الرغم من تاريخ شارع «ليشتنتالير اليه» الطويل الذي يفوق الثلاثمئة عام، يقف عند مدخله متحف «فريدر بوردا» Museum Frieder Burda الذي جاء ليصبغ المدينة بملامح العصر الحالي. وتعانق جدرانه لوحات زيتية ومائية لرسامين ألمان وعالميين تتبدل كل فترة لتفسح المجال لعرض تلك الفنون الجميلة أمام زوار المدينة.

لا يبعد متحف «فابيرجيه» Museum Fabergé كثيراً عن المتحف الأول، وهو يجمع أروع القطع الذهبية والماسية والأحجار الكريمة التي كان يملكها ملوك وأمراء وأباطرة أوروبيون. هنا يتيه الزائر بين المعروضات الثمينة التي يفوق سعر بعضها ملايين الدولارات والتي تحمل جميعها توقيع «بيتر كارل فابيرجيه» الذي كان مصمم المجوهرات المفضل لدى الأباطرة الروس بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فمع بريق ولمعان تلك التحف الجميلة المسجونة داخل الواجهات الزجاجية، يتعرف رواد المتحف إلى تاريخ كل قطعة، ومصدرها، ومن كان يملكها. وتبقى البيضة التي أعطت فابيرجيه شهرته الواسعة النجمة الساطعة في المتحف، فهو كان يصممها للأباطرة الروس ليقدموها لزوجاتهم هدية بمناسبة عيد الفصح.

عندما يطل الليل ويبرز في جوف السماء القمر وما حوله من نجوم، تضاء المدينة بالمصابيح الكهربائية وتكون الدعوة حانت لزيارة مبنى «كورهاوس» Kurhaus الذي يضم كازينو المدينة وصالة للحفلات الفنية. ويعرض هذا المبنى روائع الأعمال الهندسية التي راجت في أوروبا منذ حوالى مئتي عام. ومما يزيد من جماليته موقعه الجغرافي الممتد وسط ساحة فسيحة تتناثر في أرجائها الزهور والنبات والطرقات التي تأخذكم إلى ممرات في الجبال المحيطة بها. وأنتم هنا، لا تترددون من القيام برحلة في أحضان الطبيعة عبر الطريق المعروفة باسم «تشفارتسفالدهوشتراسيه» Schwarzwaldhochstraße والتي تبدأ من بادن بادن إلى جارتها الغابة السوداء المغمورة بالحكايات والأساطير.

تعتبر مرتفعات الغابة السوداء واحدة من أجمل الوجهات السياحية لقضاء العطلات في ألمانيا. ففي القسم الجنوبي من الغابة السوداء تمتد المروج الخضراء في محيط حيوي رائع يلفه النسيم العليل المنعش. وتعد هذه المرتفعات المشهورة على مستوى العالم إحدى أجمل المناطق الطبيعية البكر في ألمانيا. وتتكلل الغابة السوداء بقمة «فيلدبيرغ» التي يقارب ارتفاعها حوالى 1500 متر. فبالإمكان زيارة القرى الرومانسية القريبة منها وقضاء عطلة من نوع آخر في ضيافة الريف الألماني.

ومن بين البحيرات العديدة المتناثرة هنا يلمع اسم «تيتيزي» التي هي أكبر بحيرات الغابة وتتمادى بطول 2 كيلومتر وسط طبيعة غاية في الجمال، تضم عند أحد أطرافها تلالاً تضج بالأشجار الباسقة، وعند الطرف الآخر منازل ومنتجعات سياحية لإقامة هادئة بامتياز. بادن بادن صغيرة، ساحرة، وجميلة. وستمنحكم زيارتها الانطلاق إلى أماكن أخرى قريبة منها، مثل مدينة الملاهي «يوروبا بارك» Europa-Park التي تعد أكبر مدن الملاهي على الأراضي الألمانية، وثانية كبرياتها على مستوى أوروبا بعد «ديزني لاند» الباريسية. سيسر أفراد العائلة كافة عند زيارتهم مدينة الترفيه التي تقدم تشكيلة هائلة من الفعاليات والمرافق التي تمتد على مساحة واسعة خضراء. ومن المؤكد أن زيارة هذه المدينة التي لا تبعد سوى حوالى ساعة بالسيارة من بادن بادن ستثري تجربتكم وستضفي السعادة والتسلية على عطلتكم الصيفية.

سجلوا في مفكرتكم

– تستقطب بادن بادن أكثرية السياح خلال موسمي الربيع والصيف وأول أيام الخريف للارتماء في مياهها التي لها المقدرة على مداواة العديد من الأمراض، وللاستمتاع بنهاراتها الطويلة ومناخها المعتدل.

– لا تبعد سوى 44 دقيقة براً عن مدينة ستراسبورغ في شرق فرنسا التي تضم البرلمان الأوروبي والعديد من المؤسسات التابعة للمفوضية الأوروبية.

– يزخر الموقع الإلكتروني الذي يشرف عليه مكتب ترويج السياحة في المدينة بكم هائل من المعلومات باللغة العربية.

ومن خلال هذا الرابط (https://www.baden-baden.de/ae) يمكنكم تحميل برامج أخرى متوافرة في أسفل الصفحة الأولى من الرابط بعنوان Baden-Baden VR-App التي من شأنها مدكم بكل ما تريدون معرفته عن مدينة الينابيع الدافئة.

جان بيار حبيب – صحيفة الحياة

 [ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها