في ألمانيا .. لماذا تبيع الطفلة كرستينا حاجاتها على الرصيف ؟
عند الناصية التالية لبيتي، فاجأتني كرستينا ابنة جيراننا وقد افترشت مع صديقها بساطاً على الأرض وهما يعرضان ملابس وأحذية وكتباً قديمة للبيع على قارعة الطريق. منظر غريب ولا ينتمي ليوميات ألمانيا، ولكن له قصة.
لم أتمالك نفسي فوقفت مذهولا أمام “بسطية رصيف” كرستينا البالغة من العمر عشرة أعوام أتأمل المعروضات، زوج أحذية وردية من “نايكا” قيمته لا تقل عن 40 يورو، وضعت عليه بطاقة بقيمة خمسة يورو، حقيبة ظهر مدرسية نوع سكاوت قيمتها 80 يورو، تبيعها كرستينا بسبعة يورو، “سكيت بورد” قيمته 40 يورو عرضه صديق الفتاة بخمسة يورو، كتب من سلسة “غريغس تاغه بوخ” التي تبلغ قيمة كل منها 12 يورو، عرضتها البائعة الصغيرة بسعر نصف يورو للكتاب. تناولت أحد الكتب وقلّبته وسألت كرستينا لماذا تبيعه بهذا الثمن البخس وهو جديد نظيف وبحالة جيدة؟
أجابت بجدية تامة: لا أحد يشتري الكتب، ألا ترى الجميع يضعونها في معارض الكتب المجانية.
ولماذا تبيعين حاجاتك، هل تركت القراءة واللعب؟
قالت دون أن تبتسم: تركت اللعب بالدمى، فقد انتقلت الى المرحلة المتوسطة ولا يليق بي أن ألعب، أما الكتب فقد قرأتها ولن أعود لقراءتها، والملابس والأحذية باتت صغيرة علي.
ومضى حديثي معها بهذا الشكل لأكتشف أنّها تبيع حاجاتها القديمة لتحولها الى مبلغ مالي تستفيد منه لمشاريع أخرى، لأنّ مصروفها الأسبوعي من والديها لا يغطي ما ترغب به من الأجهزة الالكترونية خاصة! نحن في فصل الصيف، والتلامذة في عطلة، وكلٌّ منهم يجدّ في العثور على وسيلة للحصول على نقود.
البعض يعمل في تنظيف حدائق الجيران وجزّ النجيل أو العشب وهو عمل يدر أكثر من 10 يورو للمرة الواحدة. آخرون يتولون رعاية حيوانات المعارف والأقارب والجيران الأليفة أثناء سفر أصحابها لعطلة الصيف. غيرهم يفضّلون غسل وتنظيف سيارات الجيران الذين يملكون مرآب وقوف مستقل داخل بيوتهم (غسيل السيارات في الشوارع العامة والفرعية ممنوع في ألمانيا)، على أن يؤمّن صاحب السيارة المكنسة الكهربائية والمنظفات، والمبلغ الناتج عن هذه العملية زهيد لا يتجاوز 5 يورو للسيارة الواحدة.
العمل الأسهل الذي يسع جميع الأطفال القيام به دون جهد كبير هو جمع القوارير البلاستيكية والزجاجية الفارغة التي يمكن اعادتها للمتاجر مقابل ثمن، حيث قيمة القنينة البلاستيكية 25 سنتا وقيمة الزجاجية 8 سنتات، لكنّ المنافسين في جمع القوارير التي تتم إعادة تصنيعها كُثرُ، فالعاطلون عن العمل والمدمنون والكسالى ومحترفو التسوّل يمارسونه ليل نهار وبلا كلل، لذا تقل حظوظ الأطفال في الحصول على غنائم مناسبة لبيعها في المتاجر.
قانون العمل يمنع بشكل مطلق تشغيل الأطفال، ولكن يحق لمن تجاوز الثالثة عشرة أن يعمل بإرادته ورغبته ساعات محدودة في الأسبوع مقابل أجرٍ زهيد فيما يعرف ب”نيبن جوب”، والعمل هنا منحصر في توزيع الصحف مرة أو مرتين في الاسبوع، أو إيصال الرزم البريدية للمؤسسات الخاصة مرة أو مرتين في الاسبوع أيضا. والمبلغ الذي يحق للطفل تقاضيه يجب أن لا يزيد عن 100 يورو في الشهر باعتبار أنّ هذا المبلغ يحتاجه الفتى والفتاة لشراء حاجات تهمهم لاسيما عندما ترفض عائلاتنهم شرائها لهم.
لابد من التذكير هنا أنّ الحكومة الألمانية عبر البرنامج المستمر صندوق العائلة “فاميلين كاسه” تمنح كلّ طفل منذ لحظة ولادته حتى بلوغه الثامنة عشرة مبالغ مالية شهرية تبدأ من 186 يورو للأسرة ذات الطفل الواحد، والمبلغ يتكرر اذا امتلكت العائلة طفلين، أما الطفل الثالث فنصيبه 190 يورو، والرابع وما زاد عنه ينال 215 يورو، وهي مبالغ تبذلها الدولة لتشجيع الانجاب. هذه المبالغ نظريا للأطفال أنفسهم، لكنها عمليا مشروطة بوجودهم ضمن أسرة، والأسرة لا تنل المبالغ ما لم ينخرط الأطفال في منظومة التعليم منذ بلوغهم الثالثة من العمر. واذا استمر الأبن والأبنة في الدراسة وبقي مع عائلته، فأنّه يستمر في الحصول على المبلغ حتى بلوغه الخامسة والعشرين من العمر.
رغم كل هذا لم استطع مغادرة بسطة رصيف كرستينا دون أن أُفرحها، فاخترت كتابين، ودفعت لها 2 يورو عن طيب خاطر، لكنها أعادت لي يورو واحد مبينّة أن سعر الكتابين يورو واحد وهي لا تتسول بل تبيع!
ملهم الملائكة – دويتشه فيله[ads3]