البناء الروسي في سوريا : هل ينهار على رأس البنّاء ؟

في السردية الراهنة لما بات يُسمى بـ«الحلّ السياسي للازمة السورية»، ثمة عنصر أوّل يحظى بإجماع مضطرد، من كارهيه والراغبين فيه على حدّ سواء: أنّ موسكو صارت المتعهد الأكبر لذلك «الحلّ»، حتى إذا كانت هي القوة العسكرية الأبرز التي تساند نظام بشار الأسد على الأرض.

العناصر الصانعة لهذا الإجماع يمكن أن تبدأ من تفاهمات الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة دانانغ، وتمرّ باستدعاء بشار الأسد إلى سوتشي للقاء بوتين، والقمة الثلاثية التي دعا إليها بوتين وضمّت الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والإيراني حسن روحاني، فاجتماع أطراف «المعارضة» السورية في الرياض ـ 2، والجولة الثامنة من مفاوضات جنيف، قبيل اجتماع أستانة 8، وصولاً إلى ما يُسمّى «مؤتمر الشعوب السورية» المرتقب في سوتشي أيضاً.

بيد أنّ هذه هي، على وجه التحديد، العناصر التي يمكن أن تنقلب إلى ضدّها في حسابات السردية الراهنة حول تقليد روسيا مفاتيح الحلّ السياسي في سوريا؛ ليس لأيّ سبب آخر أكثر جوهرية من ذلك الاعتبار الأبرز: أنّ جميع هذه العناصر مفخخة، سواء أُخذت مجتمعة متكاملة أم منفردة متعارضة، وهي أقرب إلى المزيج الانفجاري منها إلى السلّة المتناسقة. ورغم أنها تبدو، من جانب آخر، بمثابة تتويج سياسي لسنتين ونيف من التدخل العسكري والدبلوماسي الروسي غير المسبوق إلى جانب النظام؛ فإنّ معطياتها، العسكرية تحديداً، هي التي تلوّح بأولى نذر انهيار البناء على رأس البنّاء.

ولعلّ من الخير أن يبدأ المرء من التفاهمات الأمريكية ـ الروسية، ومن زاوية تنطلق من طبيعة التواجد الأمريكي العسكري على الأرض السورية، وما إذا كان يسمح حقاً بدرجات متقدمة من التفاهم، فما بالك بالتفاهمات، مع روسيا حول ترتيبات المستقبل القريب. ولقد سبق لجنرال أمريكي واحد، على الأقلّ، هو جيمس جارارد، أن زلّ لسانه فصرّح بأنّ عدد الجنود الأمريكيين في سوريا «أكثر بقليل من أربعة آلاف جندي». فإذا قال المنطق إنّ الجنرال لا يمكن أن يخلط بين 4000 و503، الرقم الرسمي الذي يعلنه البنتاغون؛ فإنّ نصف الرقم «الخطأ» يكفي للسجال بأنّ الوجود العسكري الأمريكي ليس رمزياً البتة، وأنه استطراداً مرشح لمهامّ مستقبلية أكثر تعقيداً، بافتراض أنّ ذلك الوجود لن يتضاعف عدداً وعدّة.

جغرافية الانتشار الأمريكي، على امتداد محافظات الرقة ودير الزور والحسكة، تؤشر ابتداءً على اختيار مناطق سوريا الغنية بالنفط، شاء المرء أن يجاري ما يُقال عادة عن سيلان اللعاب الأمريكي إزاء منابع النفط ومكامنه، أم أبى المرء ذلك واعتبر الأمر على صلة أكثر بقطع الطريق على أيّ قوس إيراني يمرّ من العراق إلى البحر الأبيض المتوسط عبر البادية السورية. فإذا أُضيف تطورّان شهدتهما الساعات الأخيرة، أي انتشار وحدات عسكرية أمريكية في كركوك، وتصريح وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون الذي اعتبر جنيف «القاعدة الوحيدة الممكنة لإعادة إعمار البلاد، وتطبيق حل سياسي لا يترك أي دور لنظام الأسد أو لعائلته»؛ فإنّ بشائر التشويش الأمريكي على الحلّ الروسي قد تكون بدأت بالفعل.

وأما نتائج استدعاء الأسد إلى سوتشي، وإبلاغه بمسودة ما تعتزم موسكو القيام به سياسياً، الآن وقد أوشكت مهمتها العسكرية على الاكتمال كما صرّح بوتين؛ فإنّ الواقع السوري على الأرض كفيل بتهديد سلاسة ما تراه موسكو قابلاً للتطبيق، بل لعله قمين باستدراج تورّط روسي عسكري أوسع نطاقاً، وأعلى كلفة كذلك. فمن جهة أولى، لم يهدف التدخل الروسي إلى محاربة «تنظيم الدولة» (داعش)، لكي يُقال بأنّ دحر التنظيم يمكن أن يختم مهمة الجيش الروسي في سوريا؛ وما دام انتشال النظام من السقوط كان هو الهدف الفعلي، فإنّ الأخطار لا تزال محدقة بالنظام، وبالتالي يظلّ المطلوب من موسكو في هذا الصدد متعدد الأبعاد ومعقد المهامّ.

وأما من جهة ثانية، فإنّ الاستخبارات الروسية هي خير من يقدّر مقدار ما يملك الأسد شخصياً من سيطرة فعلية على أجهزته وما تبقى من جيشه، خاصة في الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، فضلاً عن ميليشيات عابرة للسلطة ومستقلة عنها. وكانت سبع سنوات من الاستنفار والقتال الميداني والخسائر الجسيمة قد أناخت بثقلها على وحدات نظامية لم تتعود إلا على الاسترخاء والكسل والفساد، كما خضعت لاختراقات جوهرية من جانب «الحرس الثوري» الإيراني و»حزب الله» والميليشيات المذهبية، شملت العقيدة العسكرية والإيديولوجية، وأسفرت عن انزياحات عميقة بعيداً عن الولاء التقليدي للبيت الأسدي. وحين يملك محمد وإبراهيم جابر، قائدا ميليشيات «صقور الصحراء» و«مغاوير البحر»، دبابات ت ـ 72 روسية الصنع، ويتنقلان في حوامات روسية على طول الساحل السوري؛ فإنّ أعنّة السلطة ليست كاملة في قبضة الأسد، والاختراقات المضادة ممكنة دائماً، ومنطقية أيضاً.

القمة الثلاثية، من جانبها، لا تحتاج إلى تمحيص متأنّ قبل أن تتكشف تناقضاتها الموروثة، بين روسيا وتركيا من جهة (حول الموقف من مستقبل الأسد في التسوية، وملفّ إدلب الشائك، وعلاقة موسكو مع الكرد في سوريا…)؛ وبين روسيا وإيران من جهة ثانية (ملفات إقليمية شتى لا تبدأ من صراع الهيمنة على سوريا، وما يُسمى بـ«سوريا المفيدة» تحديداً، ولا تنتهي عند الملفات الدولية وفي طليعتها الاتفاق النووي مع الغرب)؛ وبين إيران وتركيا (والمرء هنا يمكن أن يحدّث ولا حرج، بصدد المخفيّ المتشعب من عناصر التنافس والنزاع). وبذلك فإنّ ما اتفق عليه بوتين مع أردوغان وروحاني في سوتشي، يمكن أن ينقلب رأساً على عقب، معظمه أو كلّه، عند كل تطوّر طارئ، ضارّ بمصالح أنقرة أو طهران.

في الرياض ـ 2 كانت اللعبة السعودية في تدجين أطراف «المعارضة» السورية أقلّ حتى من مستوى التمرين الناجح على عرض مسرحي يُنتظر أن يديره الموفد الأممي ستافان ديمستورا في جنيف ـ 8. ومنذ آب (أغسطس) الماضي، كان وزير الخارجية السعودي عادل الجبير قد طوى، تحت لسانه الذرب عادة، كلّ ما اعتاد تكراره حول رحيل الأسد؛ فأبلغ رياض حجاب، منسّق الهيئة العليا للمفاوضات، أنّ العكس هو خيار المملكة الراهن.
ومن مفارقات الأقدار أنّ حجاب، المنشق عن النظام السوري بصفة رئيس وزراء، هو الذي أُلصقت به صفة «التشدد» وتوجّب أن يستقيل ليفسح المجال أمام استيلاد هيئة تفاوض شائهة التكوين، كسيحة بالولادة، ضالة ومضلِّلة، لا حول لها ولا طول حتى في البصم على أبخس التنازلات!
وتبقى جولة جنيف الثامنة، الضائعة بين القرار الأممي 2254، والبندين العزيزين على قلب ديمستورا (دستور معلّق في الغيب، لا يُعرف له مستنبت سوري أم روسي أم أممي؛ وانتخابات رئاسية، ترعاها الأمم المتحدة «حسب ما هو ممكن»، ولا يُمنع من الترشح فيها المواطن السوري بشار حافظ الأسد!)؛ وبين جولات جنيف الأولى (التي ابتدأت باشتراط أنّ «أي تسوية سياسية» يجب أن تقدّم للشعب السوري «عملية انتقالية تتيح منظوراً مستقبلياً يمكن أن يتشاطره الجميع»). وهكذا فإنّ الإحالة إلى «جنيف»، هكذا دون أرقام أو جولات، يمكن أن تمنح صاحب الإحالة، أياً كان، وكانت مقاصده، تفويضاَ ــ منطقياً وقانونياً، بالمناسبة ــ لتفخيخ أي جولة لاحقة، على قاعدة تلك المرجعية المبهمة الغائمة، دون سواها!
هذه خمسة عناصر راهنة، بين أخرى آتية، قد تتسبب في انهيار سردية الحلّ السياسي الروسي؛ ليس على رأس البنّاء بوتين وحده، غنيّ عن القول.

صبحي حديدي _ القدس العربي[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

‫4 تعليقات

  1. تشخيص رائع للواقع السوري بكل تفاصيله ويفهم منه ان الشعب السوري مازال بعيد عن الخلاص من الحرب وان طريق المعاناة لا زال طويل …اللهم رحمتك فلا حول لنا ولا قوة الا بك يا ارحم الراحمين,,,,

  2. البلاء الأعظم من أين بدأ وإلى أي مدى يتمكن الشعب السوري من التحكم بالنتائج ؟؟؟،،،
    لا نريد القول لا حول ولا يد طائلة، ،إنما يجب البحث عن المخرج مع الأخذ بالإعتبار كثرة الأيادي الوسخه التي تعتبر نفسها طائلة ومؤثره في فرض الحلول
    وبالنتيجه لن يكون حلا مجد يا ناجحا ودائماً إلا الحل الأمثل الصادر عن إرادة الشعب السوري. ?

  3. كلام صحيح ومنطقي جدا ولكننا ننسى ما هو هدف تلك موشحات وممواويل التي نسمعها ليل نهار موضوع سوري اضخم من سورين انفسهم وقعنا ضحيه تصفية حسابات دوليه سيكون خاسر من حرب سوريه اوربا والعرب نعم اوربا لا حدا بستغرب لامريكي سيطر على اكثر من نصف بترول عالم واكبر مستهلك للبترول امريكا سيطر روسي على غاز في عالم بحكم الامر واقع روسيا تملك اكثر من ثلثي غاز امريكا لا تعتمد على غاز بينما اوربا حياتها وشريان لابهر لهم هو غاز وهذا شريان ياتي من روسيا ستبقى اوربا تحت رحمه غاز روسي وتبقى اوربا تحت رحمه حمايه الامريكيه ضمن روس قطع طريق غاز قطري تصرف الامريكان بفصل وعزل قطر في خليج سيطر الامريكان على مواقع بترول تقاسم نفوز روسي امريكي للعالم تغيرت لعبه هدف القادم الاتحاد الاوربي سيتم تخريبه عما قريب لحظو كيف استفادت روسيا وامريكا ضغط غير مسبوق للهجره الى اوربا خراب عند عرب يساوي مقابله ضغط بشري على اوربا خساره الاقتصاد عربي من خلال سرقه بترول خساره اقتصاد اوربي بلجئين غير مؤهلين للعمل والانتاج في ساحه الاوربيه ليس عرب هم وحدهم نيام معنا كما قال رامسفليد قاره عجوز