دويتشه فيله : السياسة تحرم برلين من صفقات سعودية أسطورية
للعام الثاني على التوالي تتراجع الصادرات الألمانية إلى السعودية بنسبة عالية. خلال العام الماضي بلغت نسبة التراجع 9 بالمائة مقابل حوالي 28 بالمائة عام 2016 حسب بيانات مؤسسة التجارة الخارجية الألمانية. وبذلك تدهورت قيمتها من نحو 10 مليارات يورو في عام 2015 إلى 7.2 مليار يورو خلال العام الماضي 2017. أما قيمة الورادات الألمانية من المملكة فتراجعت في عام 2016 بنسبة قاربت الثلث، من 0.9 مليار يورو في عام 2015 إلى 0.6 مليارا في عام 2016. وخلال العام الماضي 2017 ساهم تحسّن أسعار مصادر الطاقة التي تشكل أهم الصادرات السعودية وزيادة واردات ألمانيا من هذه المصادر إلى ارتفاع قيمتها مجددا لحوالي 0.8 مليار يورو لتبقى رغم ذلك تحت مستوى عام 2015. ولا تشير معطيات الأشهر القليلة الماضية إلى اتجاه معاكس لمنحى التراجع، لاسيما وأن الصفقات السعودية الضخمة التجارية منها والاستثمارية مع الخارج أعطت الأولوية للشركات الأمريكية والبريطانية حتى الآن.
يزداد الطلب في السوق الألمانية على السلع من الخارج مع استمرار الاقتصاد الألماني بالازدهار أكثر من أي اقتصاد في أوروبا. وفي السعودية يتم تسييل أصول حكومية وعقد صفقات ضخمة لتنفيذ مشاريع مستقبلية يمكن للشركات الألمانية أن تساهم فيها بشكل أساسي. وعليه فإن منطق الوقائع يقول بأنه ليس هناك من مبرر اقتصادي لتراجع التبادل التجاري في الوقت الحالي، لاسيما وأن السعودية تعتبر شريكا تقليدياً واستراتيجيا لألمانيا. كما أن الآخيرة تستورد المزيد من مصادر الطاقة بسبب النمو المتواصل لاقتصادها وزيادة الطلب على هذه المصادر من قبل الشركات والمستهلكين. اما الصادرات الألمانية إلى مختلف بلدان العالم فتستمر في تحقيق أرقام قياسية لم يشهدها تاريخ الاقتصاد الألماني من قبل. المشكلة إذا لاتبدو اقتصادية إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المنتج الألماني مرغوب بشدة في السعودية وخاصة من الفئات الغنية والعائلة المالكة التي تتباهى باقتناء المنتجات الألمانية على اختلافها. كما أن الشركات الألمانية من الشركات العالمية المعروفة في تجهيز مشاريع البنى التحتية ومحطات الطاقة وتحلية المياه التي تعمل السعودية على بناء العشرات منها.
منذ مجئ الملك سلمان وابنه ولي العهد الأمير محمد إلى السلطة أواخر عام 2015 اتجهت العلاقات السياسية بين برلين والرياض إلى التوتر. وبرز هذا إلى السطح بعد تسريب محتويات تقرير للمخابرات الخارجية الألمانية حذر فيه من زغزعة الاستقرار في الشرق الأوسط بسبب ما اسماه سياسة سعودية اندفاعية يقف وراءها تعطّش ولي العهد الحالي الأمير محمد بن سلمان للسلطة. ومع اندلاع الأزمة الخليجية الأخيرة صيف عام 2017 تعاطفت الحكومة ووسائل الإعلام الألمانية مع قطر ضد الدول الأربع التي قاطعتها وهي السعودية والإمارات والبحرين ومصر. وحذر وزير الخارجية الألمانية السابق سيغمار غابريل من حرب خليجية بسبب محاولات عزل الدوحة على حد قوله. غير أن التوتر بلغ أشده بعد زيارة وزير الخارجية اللبنانية جبران باسيل إلى برلين لبحث استقالة رئيس الوزرء سعد الحريري خلال زيارة للرياض واحتجازه هناك. يومها انتقد غابريل الرياض دون أن يسميها، محذرا مما اسماه “اتساع روح المغامرة هناك”. بعد ذلك ردت الرياض بسحب سفيرها الذي لم يعد إلى برلين حتى الآن.
من الواضح أن توتر العلاقات السياسية بقوة بين برلين والرياض انعكس سلبيا على التبادل التجاري بينهما لاسيما وأن الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة. وبالمناسبة فإن هذا التوتر انعكس أيضا بشكل سلبي على العلاقات مع الإمارات حليفة السعودية ضد قطر، فالصادرات الألمانية إلى السوق الإماراتي تراجعت على سبيل المثال بنسبة زادت على 23 بالمائة خلال العام الماضي 2017 مقارنة بعام 2016، من 14.5 إلى 11.1 مليار دولار. على العكس من منحى تراجع الصادرات الألمانية إلى السعودية والإمارات، تشير المعطيات إلى ارتفاعها باتجاه قطر على خلفية العلاقات السياسية الممتازة بين برلين والدوحة. وقد بلغت نسبة الزيادة أكثر من 17 بالمائة عام 2016 مقارنة بعام 2015 لتصل إلى 2.5 مليار دولار مقابل 2.1 مليار يورو. وفي عام 2017 بلغت قيمة الصادرات الألمانية إلى الإمارة الصغيرة 2.2 مليار دولار حسب معطيات مؤسسة التجارة الخارجية الألمانية. وخلال السنوات القليلة الماضية زادت قيمة الاستثمارات القطرية في ألمانيا على 25 مليار يورو لتصبح أعلى من أية استثمارات عربية أو شرق أوسطية في الشركات الألمانية وفي مقدمتها فولكسفاغن ودويتشه بنك. وتعمل عشرات الشركات الألمانية إنجاز مشاريع مونديال 2022 العملاقة في الدوحة.
حتى سنوات قليلة خلت، كان رجال الأعمال وصنّاع القرار في ألمانيا والسعودية يتحدثون عن إمكانية مضاعفة التبادل التجاري الألماني السعودي في غضون أقل من عشر سنوات ليصل إلى 20 مليار يورو سنويا. أما اليوم وعلى ضوء التوتر السياسي المستمر بين برلين والرياض لايبدو مستقبل العلاقات الاقتصادية ورديا بين الطرفين مقارنة مع فترة ما قبل 2015. ويدل على ذلك توقيع الرياض لصفقات تجارية واستثمارية بمئات المليارات من الدولارات مع كل من واشنطن ولندن منذ عام 2015، في حين خرجت برلين حتى الآن خالية الوفاض من عقود المشاريع السعودية الضخمة التي حددت معالمها “رؤية 2030” التي أطلقها وليد العهد القوي محمد بن سلمان بهدف تحديث اقتصاد بلاده اعتمادا على صندوق استثماري سيادي بقيمة تريليوني دولار مع حلول عام 2013. ولا يبدو الأمير الذي يمسك بمفاتيح الاقتصاد السعودي مهتما حتى الآن بصفقات اقتصادية مع ألمانيا رغم أنها بلد العلوم والتكنولوجيا وتمثل رابع أهم اقتصاد في العالم. ويدل على ذلك تجنبه على غير عادة المسؤولين السعوديين زيارة برلين في جولته الأوروبية والأمريكية الأخيرة التي استمرت أسابيع وشملت لندن وواشنطن وباريس ومدريد ومدن أخرى.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل يستمر التوتر السياسي ويصل إلى حد إفساد تطوير العلاقات الاقتصادية التي ما تزال جيدة رغم التراجع التي شهدته مؤخرا؟ مما لا شك فيه أن إخضاع هذه العلاقات للمزاج السياسي السيء سيلحق الأضرار بكلا الطرفين، لاسيما وأن السوق السعودي من أهم أسواق الشرق الأوسط للسلع الاستهلاكية وتجهيزات البنية التحتية الألمانية. كما أنه يصعب على بلد كالسعودية تجاوز خبرات الشركات الألمانية في مجالات التكنولوجيا العالية والمنتجات الفريدة في مجالات الطاقة واستخراج مصادر الطاقة. ومن هنا فإنّ ألمانيا ستبقى أحد الشركاء المهمين للرياض في مجال الاقتصاد، غير أنها ستبقى بعيدة عن الدور المستقبلي لكل من واشنطن ولندن في الاقتصاد السعودي.
ابراهيم محمد – دويتشه فيله[ads3]