رواية عن امرأة يهودية خانت اليهود و تعاونت مع المخابرات تثير الجدل في ألمانيا

لم تمرّ سوى أيام قليلة عن صدورها، في الحادي عشر من كانون الثاني/يناير الجاري عن دار “هانزه برلين”، حتى تعرّضت رواية “ستيلا” للكاتب الألماني تاكيس فورغر (Takis Würger) إلى هجوم نقديّ حاد.

شنّ هذا الهجومَ أحدُ نقّاد القسم الثقافي في صحيفة “تسايت”؛ حيث جرت الإشارة إلى أن فورغر استغلّ قصّة حقيقية جرت في الفترة التي حكم فيها الحزب النازي ألمانيا “كي يصل إلى قائمة الأكثر مبيعاً”. ولم ينل الهجوم من الرواية وكاتبها فحسب؛ بل طالب دار النشر بتوضيح حول “معنى استعادة تلك المرحلة من الماضي بشكل سطحي ولا أخلاقيّ”.

الرواية، التي أكّد مؤلفها أنّها “متخيّلة”، بطلتها امرأة ألمانية يهودية تُدعى ستيلا غولدشلاك (1922 – 1994)، وهي شخصية حقيقية عاشت في برلين خلال الحرب العالمية الثانية، وتعاملت مع جهاز “الغستابو”، أو البوليس السرّي الألماني، ضد يهود مثلها، وقد ساهمت في القبض على كثير منهم إنقاذاً لنفسها ولعائلتها، وبالتالي تُعتَبر خائنة. هذه العودة إلى شخصية غولدشلاك جلبت لمؤلّفها تهماً من قبيل “استغلال الماضي” و”الاستهتار” و”الابتذال”.

كتب يورغ شايكي، من القسم الثقافي في “راديو ألمانيا”: “يجري سرد القصّة من وجهة نظر شاب وقع في حب ستيلا. وقبل نهاية الرواية بقليل، يكتشف أفعالها المروّعة. لذلك، تبدو هذه الأفعال والجرائم التي ارتكبها النازيّون وعملاؤهم وكأنّها تُزيَّن”. يتابع: “لكن، هل يجوز أن يتعرّض كتاب لهذا الهجوم الشديد، ومطالبته بالتناول العميق للتاريخ، لأنّ كاتبه استخدم الفترة النازية مجرّد خلفية، أو كواليس، لقصّة حب؟”.

تسليط الضوء على قصّة الحب، خلال الرواية، مقابل تهميش الجرائم والأفعال المروّعة، دفع ناقداً في صحيفة “جنوب ألمانيا” إلى أن يكتب: “هل هذا مجرّد إزعاج، أم إهانة، أم جناية حقيقية؟ هل هذا شعار عمل يُريد الحصول على الشهرة والبريق، ولو على حساب فقدان كلّ المعايير الأخلاقية والجمالية؟”.

“في الواقع إنها مشكلة، معها كان يجب على الكتّاب الألمان، وحتى صنّاع الأفلام، أن يجلسوا ويتناقشوا فيها قبل زمن طويل”، يقول شايكي، ثمّ يُضيف: “كيف يمكن للمرء ألّا يذكر أهوال الحرب، ويسرد، في نفس الوقت، أشياء عن التسلية والفضائح؟ بالمختصر، هل يُعتَبر ذلك خيانة لآليات صناعة الإعلام؟ أين نجدُ الحدود هنا؟ أين يقع التنوير والتحليل في التسلية والصدمات الجمالية غير الملتزمة؟”.

طبعاً، لا تُوجد إجابات ثابتة لهكذا أسئلة، خاصّة أنّ العلاقة بين الأخلاق والجماليات تتجلّى كلّ مرّة في صُوَر جديدة مع كل عمل فنّي، أي أنّ هذه العلاقة ليست نمطية بالمرّة.

يُعلّق الناقد ريتشارد كيميرلينكس، في مقال له بصحيفة “العالم”: “رواية “ستيلا” مثل أيّ عمل فني. إنها رواية ويُسمح للكاتب أن يحتمي بمبدأ الحرية الثقافية أو الأدبية. لماذا إذن هذه الاتهامات شديدة اللهجة؟”.

ثمّ يضيف في موضع آخر من المقال: “في الجوهر، يُوجَّه الاتهام دائماً، عند استخدام معاناة الضحايا ورعب الهولوكوست بشكل مبسّط، وبالتالي يجري النظر إلى الأمر وكأنّه جرى تحويل الموتى إلى مجرّد “أشياء” أو إلى “مادّة” في قصّة حقّقت نجاحات عالية في المبيعات هذه المرّة. كلّما كان كتاب ما ناجحاً، زاد التهديد باسم استغلال الماضي”.

مقابل هذه السجالات الساخنة، تبدو تصريحات المؤلّف، في معظمها، بسيطةً إلى حد كبير، إذ صرّح مثلاً: “بالطبع كان واضحاً بالنسبة إليَّ، عندما أكتب رواية تجري أحداثها في عام 1942، في زمن الهولوكوست، أن أكونَ محتاطاً لذلك”، كما شدّد على تفاصيل عديدة انتبه إليها وعمل عليها من أجل روايته؛ فقد أشار إلى أن البحث استغرق منه عامين ونصف العام، قرأ خلالها عشرات الكتب التي تناولت تلك الفترة في برلين، واستشار ثلاثة مؤرّخين.

وحول تفاعله مع ما أشار إليه منتقدوه، قال فورغر: “أعتقد بأنّ ذلك ليس عملي في الردّ عليهم، ولا أن أوضّح أفكاري حول الانتقادات. الرواية نفسها ينبغي أن تردّ عليهم”.

على المستوى المضموني، تحدّث فورغر عن روايته قائلاً: “كان مصدر الإلهام الحقيقي لروايتي هو القصة التاريخيّة لستيلا غولدشلاك، ولكنّ الرواية تُروى من قبل فريدريك، عديم الخبرة، والذي عانى من طفولة غير سعيدة، وسافر وعاش في فنادق فخمة في برلين التي كانت تعيش في حرب مزلزلة. وحتى في المخبأ كانت تأتي إلى طاولته، بشكل سرّي، الشوكولا والنبيذ. كانت النوادي الليلية قد حُرّمت، ولكن موسيقى الجاز ظلّت تُعزف، واستمرّ الغناء والرقص”.

فُهم هذا التصريح على أن الكاتب يشير إلى أن الرواية ليست محاولةً لسرد حياة ستيلا، أو كما ذهب البعض “محاولة لإظهار الخائنة كبطلة”، بل عن الشاب فريدريك الذي عانى في طفولته، ولكي يتخلّص من ذلك الماضي هرب إلى برلين وقت حربها العاصفة، ليقع في حب تلك المرأة.

جو ليندلي، مدير “دار هانزه للنشر”، وهو روائي أيضاً، بدا هادئاً هو الآخر في ردوده، حيث صرّح: “من الواضح أنّ هذا الكتاب لم يكن بالإمكان نشره قبل أربعين عاماً، ولكنّني أعتقد بأنّه يجب على كل جيل من الكتّاب، وتاكيس هو كاتب شاب، أن يجدوا تلك العلاقة أو الخيط لقصّ القصص، وإيقاظ تلك الذكريات، وسماع وجهة نظرهم ورؤيتهم لها. ستيلا غولدشلاك هي شخصيّة أثارته للغاية. كيف تسأل نفسها بعد وفاتها: كيف يُخلَق الذنب؟ كيف نتعامل مع الذنب؟ كيف أتعامل مع نفسي المذنبة؟ هذه هي القضايا الرئيسية التي نُوقشت في الكتاب”.

لكن، توجد في ألمانيا تفسيرات كثيرة لهذه الضجّة، فهناك من يرى أن هذه الانتقادات تجاه الرواية تعود إلى ما يُسمّى بـ”عداوة المهنة”، حيث أن تاكيس فورغر صحافي في مجلّة “دير شبيغل”، وكان أكثر المتهجّمين عليه من الصحافيّين.

غير أن السجال أتى في صالح الكتاب ومؤلّفه على المستوى التسويقي، حيث إن الكاتب ومنذ صعود هذا الجدل، تعدّدت دعواته في أمسيات أدبية في كامل ألمانيا ليناقش الرواية مع الجمهور، كما أنّ ذلك أدى، من جهة أخرى، إلى ارتفاع المبيعات بشكل كبير، وهي اليوم في “قائمة شبيغل” لأكثر الكتب مبيعاً في ألمانيا. يحدث ذلك في الوقت الذي دعا بعض المنتقدين إلى سحبها من الأسواق.

من وراء هذا الجدال، يصعد تساؤل أساسي في المشهد الأدبي الألماني اليوم: لماذا يجري اختصار المرحلة التي حكم فيها الحزب النازي، والحرب العالمية الثانية، في الهولوكست فحسب؟ وكأنّ لا أحد عانى في تلك المرحلة سوى ضحايا المحرقة. لماذا يخاف الجميع الحفر في الحقائق والوثائق والسرديات؟ هذا السؤال يبدو أن الجميع يريد التهرُّب منه.

عارف حمزة – العربي الجديد[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها