BBC : حكاية المدينة الألمانية التي تنتمي إلى سويسرا

إذا واتتك الفرصة لزيارة بلدة “بوزنغين آم هوخراين”، في اليوم الوطني لسويسرا – الذي يحل في الأول من أغسطس/آب من كل عام – فستجد حشوداً ممن آثروا قضاء عطلتهم الصيفية في هذا المكان، وقد توزعوا بين من استقلوا قوارب وعوامات تشق طريقها في نهر الراين، ومن استلقوا على المناطق العشبية المحيطة بضفتيْ النهر لأخذ حمامات شمس.

وبين الحين والآخر، تمضي حافلة عامة في الشوارع الخاوية بشكل كامل تقريباً، وقد ازدانت بالزينات المألوفة لهذا اليوم، والتي تتألف من العلم السويسري بصليبه أبيض اللون على أرضية حمراء.

يبدو المشهد مثالياً ومعتاداً بطبيعة الحال، لكن ثمة تفصيلة واحدة غريبة فيه، ألا وهي أن كل هذه الأجواء المرحة، التي تحتفي بذكرى تأسيس الاتحاد الفيدرالي السويسري، تجري في ألمانيا في واقع الأمر وليس في سويسرا.

ويُعقّب رولاند غونترت، نائب عمدة البلدة على ذلك بالقول: “قضاء العطلات هنا أمر جذاب، وهو ما نفعله بالسليقة، فأرواحنا وقلوبنا سويسرية”.

ويعود سبب هذا الشعور، إلى أن تلك البقعة الألمانية محاطة من كل جانب بالأراضي السويسرية، ما يجعلها توصف بأنها “أرض حبيسة” و”أرض مستحاطة” في الوقت نفسه، وهو أمر يبدو مثيراً لمحبي مثل هذه الطرائف والغرائب الجغرافية، ومربكاً ومفاجئاً لباقي الناس.

ويجدر بنا هنا توضيح هذين المصطلحين المرتبطين ببعضهما البعض، فـ “الأرض الحبيسة” أو “الجيب” هي منطقة تتبع دولة ما وتحاط بشكل كامل بأراضي بلد آخر، مثل ليسوتو التي تطوقها جنوب أفريقيا من كل جهة، أما “الأرض المستحاطة”، فهي بقعة مفصولة عن البر الرئيسي للدولة التي تتبعها بأراضي دولة أخرى، دون أن تكون مطوقة بها بالضرورة. وينطبق كلا التعريفين على “بوزنغين أم هوخراين”.

فالحدود الشرقية للبلدة تبعد 700 متر تقريبا عن باقي مناطق جمهورية ألمانيا الاتحادية. وبينما تنتمي تلك المنطقة التي يقطنها قرابة 1450 نسمة سياسيا لألمانيا، فهي تشكل – اقتصاديا – جزءا من سويسرا، إذ أنها لا تتبع الاتحاد الأوروبي تماما مثل الاتحاد السويسري، وقد اعتُبِرَت نموذجا قد تحتذي به بريطانيا في علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي بعد خروجها المقرر منه.

وقبل سنوات قليلة، اقترح سياسي من أيرلندا الشمالية أن يحظى هذا الإقليم البريطاني بوضع جمركي خاص، على غرار الوضع الذي تتمتع به تلك البلدة الألمانية، من قبيل فرض رسوم جمركية قليلة وقيود محدودة على حركة الهجرة والتنقل بينه وبين جمهورية أيرلندا.

ويعني الاقتراح أن تنتفي تبعية أيرلندا الشمالية بالاتحاد الأوروبي عند إتمام الخروج البريطاني، دون أن يعني ذلك انقطاع الصلة بين ذلك أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا. لكن هناك من لا يتفق مع هذا الرأي، باعتبار أنه لا وجه للمقارنة تقريبا بين قرية صغيرة مثل “بوزنغين آم هوخراين” وإقليم بريطاني يبلغ عدد سكانه ما يربو على 1.8 مليون نسمة.

ويقول غونترت إن الترتيبات التي تحكم القرية بسيطة للغاية “فلدينا قوانين ألمانية، وتدير شؤوننا الحكومة الألمانية، بينما نحظى على الجانب الآخر بالاقتصاد السويسري”.

ولا يوجد مكان في البلدة يتضح فيه هذا الانقسام أكثر من مطعم “فالدهايم”، الذي ترى فيه خط الحدود الدولية الفاصل بين الدولتين، وقد رُسِمَ على أرضية الشرفة الخارجية المُخصصة لتناول وجبات العشاء، وهو ما يجعل بوسعك أن تتناول الطعام في سويسرا قبل أن تنتقل إلى ألمانيا لاحتساء الشراب هناك.

لكن الحياة في بلدة ثنائية القومية تضع أمام السكان – وبشكل يومي – تناقضات وخيارات، فبينما تُجرى التعاملات التجارية عادة بالفرنك السويسري ويعمل غالبية السكان في البلدات السويسرية الكبيرة المجاورة؛ فإنه يتعين عليهم في الوقت نفسه دفع الضرائب على الدخل، وفقاً للنسبة المطبقة في ألمانيا والتي تزيد عن نظيرتها في سويسرا.

وفيما يلتحق الأطفال بالمدارس المحلية الابتدائية الألمانية، من حق أولياء الأمور اختيار الدولة التي يتلقى فيها أبناؤهم العلم في المدارس العليا.

من جهة أخرى، لدى سكان “بوزنغين آم هوخراين”، رموز هاتفية وبريدية ألمانية وسويسرية في وقت واحد، أي أن المتصل يمكنه استخدام رمز الاتصال الدولي بألمانيا 49+ ونظيره السويسري 41+ للاتصال بالمتلقي نفسه.

ولعل أبرز ما في هذا الأمر، هو أن فريق البلدة لكرة القدم، هو الفريق الألماني الوحيد، المسموح له بالمشاركة في منافسات الدوري السويسري!.

ويشكل كل ما سبق تفاصيل الحياة اليومية لسارا بيرنات، التي تعيش في منطقة ألمانية لا تبعد سوى 30 دقيقة عن تلك البلدة الفريدة من نوعها، وتضطر لعبور الحدود الدولية أكثر من مرة للوصول إليها في كل يوم، فلم تكن بيرنات تعلم شيئاً عن هذه المنطقة في السابق، ولم تأت لها سوى مرة واحدة خلال طفولتها، للعرض على طبيب أسنان، لكنها حصلت على وظيفة بأحد فنادق “بوزنغين” قبل 11 عاماً، لتجد نفسها تعطي نزيلاً المبلغ المالي المتبقي له، في صورة فرنكات سويسرية، وهو ما بدا لها وكأنها تمارس لعبة تُستَخدم فيها نقود زائفة لا حقيقية، لأغراض تعليمية.

ورغم مرور أكثر من عقد من الزمان على هذه اللحظة، فما تزال البلدة تبدو في عينيْ بيرنات سويسرية الطابع “فالسكان يتحدثون مثل السويسريين، ولغتهم الألمانية تختلف” عن تلك التي تُستخدم في ألمانيا ذاتها.

بطبيعة الحال، وكما هو الحال مع غالبية الأراضي الحبيسة والمستحاطة في العالم؛ ثمة جذور تاريخية لـ “أزمة الهوية” التي تعاني منها هذه المنطقة.

فمشكلة “بوزنغين” بدأت عام 1693، أي قبل وقت طويل من تأسيس دولة ألمانيا بشكلها الحالي، ففي ذلك الوقت الذي كانت فيه المنطقة تخضع للسيطرة النمساوية؛ أدى نزاع عائلي بشأن الانتماءات المذهبية إلى اختطاف السيد الإقطاعي لـ”بوزنغين”، الذي كان يميل إلى المذهب الكاثوليكي.

وقتذاك نقله أبناء عمومته إلى بلدة سويسرية قريبة تتبع المذهب البروتستانتي، حيث حُكِمَ عليه بالسجن المؤبد، ولم يُطلق سراح هذا الرجل سوى بعد ست سنوات، شهدت تهديدًا نمساويًا بغزو تلك البلدة.

بعد عقود، تخلت النمسا عن الأراضي التي كانت تسيطر عليها في هذه الأنحاء مقابل أموال حصلت عليها من كانتون زيورخ السويسري، لكنها أصرت – لدوافع انتقامية كما يقول المؤرخون – على الإبقاء على “بوزنغين” تحت سيطرتها.

ومن هنا، فعندما بسطت ألمانيا سيطرتها على مناطق من الإمبراطورية النمساوية في القرن التاسع عشر، ادعت برلين أن تلك المنطقة من بين الأراضي التابعة لها.

وفي عام 1919، حاول السويسريون المعروفون بالترتيب والنظام إنهاء المشكلة عبر إجراء استفتاء صوّت خلاله 96% من السكان لصالح الانفصال عن ألمانيا، لكن برلين لم تكن مهتمة في ذلك الوقت بالتخلي عن البلدة، نظراً لأن سويسرا لم تعرض تقديم أي شيء في المقابل.

وقد ظلت الترتيبات الخاصة بهذه المنطقة قائمة حتى في ظل فوضى الحرب العالمية الثانية، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، استمر تقسيم “بوزنغين” بين سويسرا وألمانيا، ما حول جولات التسوق اليومية فيها، إلى ضرب من ضروب ممارسة التجارة الدولية.

وتصف إليزابيث آربكه – التي شبت عن الطوق في تلك البلدة لكنها انتقلت للعيش خارجها بعد ذلك – عمليات التسويق هذه بأنها “كانت معقدة، فعندما كنت تشتري لحماً من ألمانيا؛ كان يتعين عليك المرور عبر الحدود إلى داخل سويسرا وملء استمارات” تتعلق بالإجراءات الخاصة بذلك.

وفي النهاية، اتفقت ألمانيا وسويسرا عام 1967 على إضافة “بوزنغين” إلى المنطقة الجمركية السويسرية، وهو ما أدى إلى إزالة نقاط التفتيش ومراقبة الحدود التي كانت موجودة حولها.

غير أن الضرائب تمثل المشكلة التي ما تزال قائمة حتى الآن في هذه المنطقة.

فنظراً لأن تكاليف المعيشة في سويسرا أعلى من نظيرتها في ألمانيا، يتقاضى سكان البلدة عادةً رواتب أكبر من تلك التي يحصل عليها مواطنوهم الألمان في باقي مناطق البلاد، لكن في المقابل، يدفع الموظفون والعمال هناك ضرائب أكبر من جيرانهم السويسريين، نظراً لأن نسبة الضريبة المفروضة على الدخل في ألمانيا أعلى من تلك المطبقة في سويسرا.

بطبيعة الحال، هناك جانب إيجابي لهذا الأمر؛ يشعر به أشخاص مثل كارولين مايور، التي تعمل سائقة لسيارة أجرة، فالإيجار الذي تدفعه هذه السيدة في “بوزنغين” يقل بنسبة 50% عما يدفعه نظراؤها المقيمون على بعد كيلومترات قليلة في داخل سويسرا، وقد انتقلت مايور للإقامة في هذه البلدة قبل عامين قادمة من بلدة فريدبيرغ الألمانية، وهي تشعر بسعادة بالغة لإقدامها على هذه الخطوة. وتقول: “أحب حياتي.. هناك طاقة جيدة في هذا المكان، إنه لطيف بشدة”.

ولا تقتصر الرغبة في الإقامة في “بوزنغين” على مايور وحدها؛ إذ يشاطرها فيها المتقاعدون السويسريون، للاستفادة من الإعفاءات الضريبية التي تقدمها السلطات الألمانية للمتقاعدين، ونتيجة لذلك – كما يقول راينر كراوزه الذي تدير كريمته مطعم “فالدهايم” الواقع على الحدود بين ألمانيا وسويسرا – يذهب “الشبان إلى سويسرا، بينما يأتي كبار السن إلى هنا، لتصبح البلدة أكبر سناً يوماً بعد يوم”.

وإذا نحينا السياسة جانباً؛ فسنجد أن بلدة “بوزنغين” تشكل مدخلاً رائعاً لمنطقة وادي الراين، وبوسع المهتمين بهذا المكان، أن ينعموا برحلة سير تمضي على مسار محدد المعالم بشكل جيد، يمر عبر البلدة ويتألف من 11 محطة.

ويضمن لك السير على هذا الممشى أن تنعم بإطلالات على النهر، وأن تتفقد العلامات الخاصة بترسيم الحدود الدولية، بجانب زيارة حقول العنب التي ينضج فيها الكروم الألماني من أنواع مختلفة، قبل أن يُنقل بالشاحنات لمسافة لا تتجاوز عدة كيلومترات ليُحول إلى نبيذ سويسري.

وربما توضح جدارية توجد في الشارع الرئيسي للبلدة، وتشكل أولى محطات هذا المسار، طبيعة الهوية الثنائية لهذه البلدة بأفضل شكل ممكن؛ إذ أنها عبارة عن عامل يحمل سارية يرفرف عليها العلم الألماني بينما يضع في جيب سترته علمًا سويسرياً.

على أي حال تبدو الحياة هانئة في هذه البلدة، رغم التشوش والإرباك الناجمين عن كونها ثنائية القومية بشكل ما، فكما يقول نائب عمدتها – وهو يرتشف قهوة الإسبريسو في مقهى مُقام في الهواء الطلق ويطل على نهر الراين – تقع “بوزنغين” في مكان مثالي؛ على بعد أقل من ساعة بالقطار من مطار زيورخ، كما لا يزيد الوقت الذي يستغرقه المرء للانتقال منها إلى بلدة شافهاوزن السويسرية، على 10 دقائق بالحافلة.

وخلال حديثه، لم تفت الرجل الإشارة إلى النهر الذي كان يلهو فيه خلال طفولته، كما مد نظره إلى الغابة الواقعة على مرمى حجر من ضفتيه، وهي المنطقة التي تمثل محمية طبيعية، تُحظر إقامة أي منشآت فيها، وقال في النهاية إن بلدته هذه “تشبه الجنة”؛ بقعة أخرى؛ لم تحصرها قط حدود قاطعة.

لاري بليبيرغ – BBC[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها