BBC : جولة في ” برلين الصغيرة ” التي ما زال بها ” جدار فاصل “
تقع قرية مودلارويت الصغيرة في قلب الريف الألماني، في منتصف الطريق بين العاصمة برلين ومدينة ميونيخ، ويصل عدد سكانها إلى نحو 50 شخصا، ولا يوجد فيها سوى حانة واحدة. رغم ذلك، يجتذب هذا المكان عشرات الآلاف من الأشخاص سنويا.
لكن قد لا يصعب عليك إدراك سبب ذلك بمجرد وصولك، فبين منازل القرية الـ18 وحقولها، يوجد جدار إسمنتي أبيض اللون يبلغ طوله مئة متر، وهو جزء من جدار أطول كان يُمثّل في السابق حدا فاصلا بين الألمانيتين الشرقية والغربية، وذلك كجزء من حدود أكبر، امتدت بينهما منذ عام 1949 وعلى مدار عقود بطول يقارب 1400 كيلومتر.
ونشأت هذه الحدود – التي كان أشهر أجزائها جدار برلين – بفعل إقامة الاتحاد السوفيتي السابق، ما كان يُعرف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية في شرقي البلاد. لكن ذلك الجدار لم يكن متصلا بشكل فعلي بما عُرِف بالحدود الداخلية التي امتدت بين الألمانيتين.
على أي حال، كانت مودلارويت تقع مباشرة على خط التقسيم بين الشطرين؛ وهو ما أدى إلى أن تنقسم هذه القرية الوادعة طيلة فترة الحرب الباردة، بين جزء يقع في الشرق الشيوعي، وآخر يقبع في الغرب الرأسمالي.
وفي الوقت الحاضر، يشكل القطاع المتبقي من الجدار الإسمنتي القائم في مودلارويت جزءا من متحفها، جنبا إلى جنب مع برج للمراقبة وسياج معدني، فضلا عن نموذج لهذا الجدار المحصن، ناهيك عن مقتنيات أخرى ذات صلة بحقبة الحرب الباردة. ولا تزال القرية تُعرف حتى الآن، باسم “برلين الصغيرة” أما حانتها – التي فتحت أبوابها عام 2002 – فتسمى “المسافر عبر الحدود”.
وإذا زرت هذه البقعة اليوم، فستجد السائحين المزودين بكاميرات وقد حلوا محل الحراس المدججين بالسلاح. وبرغم أن الزوار والسكان يتنقلون دون عناء من شرق القرية إلى غربها بلا اكتراث بلافتات التحذير العتيقة التي لا تزال قائمة، فإنهم لا يدركون أنهم يعبرون في الوقت نفسه، حدودا أخرى لا تبدو بسهولة للعيان، وهي خط الحدود الإدارية الفاصل بين ولايتيْ بافاريا وتورينغن.
وفي كل الأحوال، تبدو مسألة تمزق هذه القرية في يوم ما بين نظامين متناقضين؛ سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وكذلك الطريقة التي تتبدى بها الحدود القائمة فيها حتى الآن، قصة رائعة، لا سيما وأن وقائعها تبدأ بجدول مائي صغير، ينبع من بحر البلطيق – بالقرب من مدينة لوبيك – في شمال ألمانيا، وصولا إلى حيث تلتقي الحدود الشمالية لبافاريا مع جمهورية التشيك في الشرق.
ففي عام 1810، وضعت أحجار على طول ضفتي الجدول الذي يحمل اسم “تانباخ”، لتحديد الخط الفاصل بين ولايتيْن ألمانيتيْن كانتا تتمتعان بالسيادة حينذاك: مملكة بافاريا، التي كانت قد وسعت نطاق أراضيها في ذلك الوقت، وإمارة “رويس الخط الأصغر”.
وحتى هذه اللحظة، لا يزال بوسع المرء أن يرى الحرفيْن الأوليْن من اسم كل ولاية، وقد حُفِرَا على هذه الأحجار بالتبادل. وفي عام 1871، انضوت الولايتان تحت لواء الإمبراطورية الألمانية الموحدة. وبعد الحرب العالمية الأولى، عادت الحدود القائمة في القرية – على طول الأحجار المُصطفة على ضفتيْ “تانباخ” – لتفصل بين ولايتيْ بافاريا وتورينغن، اللتين أُسِستا في تلك الفترة.
لكن النقطة الفاصلة في تاريخ القرية وسكانها، حلت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بعدما أصبحت مودلارويت – بفعل هذا الفاصل المائي الحدودي – تقف على الجبهة الأمامية، للتوترات التي قسّمت أوروبا على مدار عقود طويلة.
ففي عام 1945، ومع تقسيم ألمانيا إلى أربع مناطق محتلة تخضع لسيطرة الحلفاء (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي السابق)، وجدت القرية نفسها وقد انقسمت إلى شطرين مرة أخرى، يتبع أحدهما ولاية تورينغن بينما ينضوي الآخر لولاية بافاريا.
وبموجب خطوط الترسيم، التي حُدِدَت في بروتوكول لندن عام 1944، كانت تورينغن تقع تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي السابق، بينما مُنِحَت بافاريا للأمريكيين. لكن الفارق بين برلين و”برلين الصغيرة” هذه، أنه بينما قُسِّمت الأولى عن عمد، لم تكن الثانية – على الأرجح – محط اهتمام قادة العالم، وهو ما يعني أنها عَلِقَت عرّضا بين القوى الدولية المتنافسة على السيطرة على ألمانيا.
وفي بادئ الأمر، ظل بوسع القرويين في مودلارويت عبور الجدول المائي ذهابا وإيابا، رغم إمكانية توقيفهم للتحقق من وثائق الهوية الخاصة بهم. لكن مع تصاعد التوترات بين الاتحاد السوفيتي السابق والحلفاء الغربيين، إثر احتدام الحرب الباردة بينهما، أصبح جدول “تانباخ” أشبه بهوة آخذة في الاتساع، تفصل بين شطريْ القرية.
وهكذا ففي عام 1949، أصبح هذا المجري المائي جزءا من الحدود الفاصلة بين الدولتين اللتين أُسستا حديثا في ذلك الوقت: جمهورية ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية) وجمهورية ألمانيا الاتحادية (ألمانيا الغربية). وبينما أدت الحدود الداخلية إلى تقسيم السكان والمدن والبلدات بين الألمانيتيْن، فإنها قسّمت في مودلارويت تجمعا سكانيا محدود العدد للغاية.
وقد أصبح الانفصال بين شطريْ القرية أكثر حدة عام 1952، عندما أغلقت سلطات جمهورية ألمانيا الديمقراطية الحدود مع نظيرتها الغربية دون سابق إنذار تقريبا، وذلك لمنع حدوث موجات أكبر من الهجرة واسعة النطاق باتجاه الغرب.
ومنذ ذلك الحين، ازدادت الحدود القائمة في القرية تحصينا ومناعة، بدءا بشريط يبلغ عرضه 10 أمتار للسيطرة على حركة التنقل بين الجانبين، ثم أعقب ذلك وضع سياج من الأسلاك الشائكة، وصولا إلى إقامة جدار إسمنتي في نهاية المطاف عام 1966، بطول بلغ 700 متر.
ويقول مدير متحف القرية، روبرت ليبيغرن، إن مودلارويت مثلت جزءا شديد التحصين، من الحدود الفاصلة بين الألمانيتيْن، نظرا لقرب المباني والسكان على الجانب الشرقي فيها من الخط الحدودي. ففي وقت لاحق لتشييد الجدار الإسمنتي، وُضِعَت ألغام على الجانب الشرقي منه كرادع إضافي.
وبالنظر إلى أن جدار مودلارويت شُيّد بعد خمس سنوات فحسب، من ظهور جدار برلين إلى الوجود، أطلقت القوات الأمريكية على هذه القرية اسم “برلين الصغيرة”، رغم أن جدارها الذي يبلغ ارتفاعه 3.3 أمتار، يخلو من أي نقاط تفتيش، بخلاف نظيره الأكثر شهرة.
من جهة أخرى، ربما يصعب على المرء استيعاب تأثير هذا الانقسام العدائي على المجتمع محدود العدد المقيم في تلك القرية. وبرغم أن تأمل صور هذه الحقبة، المحفوظة في متحف القرية، قد يفيد في أخذ فكرة عن مدى هيمنة الحاجز الحدودي على المشهد هناك، فإن مسألة الحدود كانت تمثل ما هو أكثر من ملمح بصري مؤذٍ للعين، خاصة بالنسبة لسكان الشطر الشرقي من مودلارويت، الذين واجهوا الكثير من القيود، مثل تلك التي فُرِضَت على سفرهم للخارج واجتماعهم في داخل قريتهم بعد حلول الظلام، فضلا عن حظر تجوالهم ليلا في أنحائها.
وبينما تم فرض العزلة على الشطر الشرقي من القرية وفصلها تماما عن العالم؛ بات الجانب الآخر منها مكشوفا على ما حوله. فقد بدأ زوار ألمانيا الغربية في التدفق على الشطر الغربي من مودلارويت لإلقاء نظرة أقرب على “برلين الصغيرة”. حتى الرئيس الأمريكي الراحل جورج بوش الأب، قرر التوقف هناك خلال زيارة رسمية قام بها لألمانيا الغربية، وهو نائب للرئيس عام 1983. وفي وقت لاحق، وجه رسالة تهنئة للقرويين في مودلارويت بعد إعادة فتح الحدود عام 1989.
وأدى قرار الإبقاء على قطاع من الجدار يبلغ طوله مئة متر، إلى تواصل الاهتمام بالقرية لفترة طويلة بعد إسدال الستار على الحرب الباردة. لكن بقاء هذا الجزء واستمرار تدفق السائحين على تلك البقعة من الريف الألماني، لم يمنع من أن تعود الحياة هناك إلى طبيعتها بشكل أو بآخر، رغم استمرار فاصل حدودي ما لا يزال قائما في أراضيها.
وقد يصعب على من يزورون هذه القرية ليوم واحد تمييز الحدود الإدارية الموجودة فيها، والتي تفصل بين ولايتيْ بافاريا وتورينغن. لكن ذلك لا ينفي أن لهذا الخط الحدودي آثارا ملموسة على أرض الواقع، تتمثل في وجود اختلافات مهمة بين جانبيْ مودلارويت، مثل التباين في الرموز البريدية ورموز الاتصال الهاتفي وأرقام تسجيل السيارات، ومواعيد بعض العطلات الرسمية.
ويؤثر مكان الإقامة أيضا على هوية السكان. فرغم أنهم – بحسب مدير المتحف – ينتمون إلى مودلارويت في المقام الأول، فإنهم يشعرون بانتماء قوي إما إلى بافاريا أو تورينغن. ويضيف الرجل بالقول إنه من المألوف أن تسمع شخصا يقيم في الجانب التابع لتورينغن، وهو يقول إنه ذاهب لزيارة البافاريين أو العكس، وهو أمر يكتسي بالأهمية في دولة تقوم على النظام الفيدرالي.
ومن بين الأساليب الفعالة التي يمكن من خلالها التمييز بين جانبي القرية، الإنصات إلى التحيات التي يستخدمها السكان. فالسكان التابعون لتورينغن – ممن كانوا ينتمون في السابق لألمانيا الشرقية – يميلون لقول “طاب يومك” وهي تحية ألمانية تقليدية. أما البافاريون فيحيون بعضهم بعضا بالقول “حياك الله”، وهي تحية مشتقة من عبارة “باركك الله”، ويشيع استخدامها في جنوبي ألمانيا والنمسا كذلك.
اللافت أن هذا الاختلاف في عبارات التحية، يشكل جزءا من تباين أوسع في اللهجات بين الألمانيتيْن نشأ في حقبة الحرب الباردة. وقد كشفت دراسة تحليلية نُشِرَت عام 2010 وتركزت على عبارات جُمِعَت بعد وقت قصير من إعادة توحيد ألمانيا، عن أن الحدود الداخلية التي فصلت بين شطريها على مدار عقود، أدت إلى اختلاف اللهجات على جانبيها كذلك. ونجم هذا التباين – الذي كان يمكن أن يستغرق قرونا ليحدث حال وجود حدود مفتوحة نسبيا بين الشطرين – عن تقلص التفاعل المتبادل بين الموجودين على جانبي الحدود، وتأثرهم الكبير في الوقت نفسه، بمن يعيشون حولهم في كلٍ من الشطرين.
ولا يزال الاختلاف في اللهجات قائما في تلك القرية، على الرغم من تقلص حدته قليلا، بفعل عودة السكان إلى الاندماج مع بعضهم بعضا بعد الوحدة. فقد صارت لهم شجرة مشتركة للاحتفال بعيد الميلاد، واحتفلوا معا بالذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين.
ويقول مدير متحف القرية في هذا الشأن: “يميل الناس لربط تاريخ التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني 1989 بسقوط جدار برلين، لكن في تلك الليلة فُتِحَت كذلك نقاط التفتيش على طول كامل الحدود الداخلية الفاصلة بين الألمانيتين”. وفي غضون ساعات قليلة، بات بوسع الناس التنقل – ليس فقط من برلين الشرقية إلى نظيرتها الغربية – بل كذلك من ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية.
ونظرا لأنه لم تكن هناك نقاط تفتيش من الأصل في الجدار الموجود في مودلارويت، فقد تعين هدم جزء منه كي يتسنى للقرويين العبور من هذا الجانب إلى ذاك. وبعد شهر من ذلك بالتمام والكمال، أي في التاسع من ديسمبر/كانون الأول، وبفعل الضغط المتزايد من جانب السكان، تم رسميا فتح نقطة عبور للمشاة.
وفي هذا العام، شاركت القرية في فعاليات شهدتها أرجاء مختلفة من الريف الألماني خلال الأسبوع السابق ليوم التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني، وذلك لإحياء ذكرى مرور ثلاثة عقود على سقوط جدار برلين، وتلاشي الحدود الداخلية التي كانت تفصل بين الألمانيتيْن.
لكن فعاليات أخرى ستُجرى في التاسع من ديسمبر/كانون الأول، لاستذكار ما حدث في ذلك اليوم من فتح نقطة عبور في الجدار المحلي الخاص بتلك القرية. وفي خلفية مشهد هذا الاحتفال المنتظر، سيبقى “تانباخ” يجري بهدوء دون توقف كما كان الحال دائما في مودلارويت منذ أمد بعيد. (BBC)[ads3]