مهمة غير مسبوقة لإنقاذ أشجار نادرة ” تعود إلى عصر الديناصورات “
في 15 ديسمبر/كانون الأول عام 2019، فشلت إحدى محاولات رجال الإطفاء لاحتواء الحرائق المستعرة في سلسلة الجبال الزرقاء (بلو ماونتنز) بولاية نيو ساوث ويلز الأسترالية، فشلا ذريعا.
وتعمد الفريق إشعال حرائق صغيرة لإزالة الغطاء النباتي في المنطقة حتى لا تلتهمه النيران المستعرة في طريقها وتتسع رقعتها. لكن سرعان ما خرجت الحرائق الصغيرة عن السيطرة بسبب قوة الرياح العاتية، وانتشرت ألسنة اللهب في القرى المجاورة والتهمت مساحات شاسعة من الأشجار و المزارع وبساتين التفاح.
وأحاطت النيران بأحد كنوز أستراليا الطبيعية، وهي حديقة نباتات الجبال الزرقاء، التي تمتد على مساحة 28 هكتارا وتضم أكثر من 6,000 نوع من النباتات، بالإضافة إلى 244 هكتارا من منطقة الجبال الزرقاء المدرجة ضمن قائمة اليونيسكو للتراث.
ورغم الجهود المضنية التي بذلتها فرق الإطفاء بنيو ساوث ويلز، التهم الحريق ربع النباتات، لكنها نجحت في إنقاذ مجموعة من أشجار ووليمي الصنوبرية النادرة، التي تعد واحدة من أقدم الأشجار على كوكب الأرض وأكثرها عرضة للانقراض.
وفي الوقت نفسه، كانت آخر أشجار ووليمي التي تنمو في أخدود عميق في متنزه ووليمي الوطني شمال غرب حديقة النباتات، مهددة من الحرائق المتأججة التي أتت دون هوادة على أكثر من نصف مليون هكتار من الغابات.
وكان اكتشاف أشجار ووليمي الصنوبرية (ووليميا نوبليس) واحدا من أهم الاكتشافات النباتية في العقود الأخيرة.
ففي عام 1994، كان ديفيد نوبل، مسؤول الحياة البرية بمتنزهات نيو ساوث ويلز الوطنية، يتفقد الأشجار بالمتنزه، ونزل إلى أحد الأودية العميقة، حيث رأى مجموعة من الأشجار القديمة، صنوبرية الشكل التي لم ير لها مثيلا قط.
وتعد هذه الأشجار الطويلة ذات اللحاء البني المحبب والجذوع المتعددة، واحدة من أندر الأشجار في العالم. ويعود تاريخ أقدم حفريات مكتشفة من أشجار ووليمي، التي كان العلماء يظنون أنها انقرضت منذ سنوات طويلة، إلى العصرين الجوراسي والطباشيري منذ 200 مليون عام، أي قبل أن تنقسم أستراليا عن قارة غندوانا الكبرى.
وبالرغم من أن هذا النوع من الأشجار كان منتشرا في شرقي أستراليا قبل 40 مليون عام، لم يتبق منه الآن سوى القليل في الأخدود الرطب العميق لتظل بمثابة حفريات حية تذكرنا بالديناصورات التي كانت تقتات على أوراقها. والعجيب أنها صمدت طيلة هذه السنوات في مواجهة طقس أستراليا الذي يزداد جفافا مع مرور الحقب والعصور.
ويشّبه كاريك تشامبرز، مدير حديقة النباتات الملكية في سيدني، هذا الاكتشاف بأنه “يعادل اكتشاف ديناصور صغير على وجه الأرض”.
وبحسب “هيئة الإذاعة البريطانية”، نجحت جهود زراعة أشجار ووليمي الصنوبرية في حدائق النباتات الأسترالية وحول العالم. ونقلت شتلاتها إلى غابات برية عديدة لضمان بقائها على المدى الطويل.
لكن أشجار ووليمي الصنوبرية التي تنمو بريا لا تزال مهددة بشدة بالانقراض، إذ تصطف الأشجار المتبقية منها، والتي يصل عددها لنحو 100 شجرة، على مساحة كيلومتر واحد في موقع محاط بالسرية داخل أخدود في المتنزه.
وتمثل الحرائق التهديد الأكبر لهذه الأشجار، رغم أن ثمة أدلة تثبت أن هذه الأشجار صمدت في مواجهة الحرائق في الماضي.
وتقول ليزا مينكي، مديرة منطقة مادجي بمتنزهات نيو ساوث ويلز الوطنية وتشارك في فريق إنقاذ أشجار ووليمي: “وضعنا تدابير لحماية الأشجار بعد ثلاث أسابيع من اشتعال الحرائق، إذ وضع فريق من الخبراء الخطط لحماية هذه الأشجار، مع الأخذ في الحسبان أنها كانت في مسار حرائق الغابات”.
وكانت أول خطوة اتخذها الفريق هي تركيب نظام ري في الموقع النائي داخل الأخدود، لأن أشجار الصنوبر تحتاج لبيئة رطبة ومظللة، وفي هذا الوقت كانت الأشجار تعاني من الجفاف. ونفذت هذه الخطوة فرقة خاصة من رجال الإطفاء الذين استقلوا طوافة ونزلوا إلى موقع أشجار الصنوبر السري.
وبنهاية شهر يناير/كانون الثاني، بعد أكثر من شهر من احتراق حدائق النباتات بالجبال الزرقاء، وصلت النيران إلى أشجار ووليمي البرية، وأحرقت ألسنة اللهب بعض الأشجار، لكن مثبطات انتشار الحريق التي استخدمها فريق الإطفاء أسهمت في إخماد النيران وتخفيف الأضرار.
وتصف كاثي أوفورد، كبيرة العلماء بحديقة النباتات الملكية بسيدني، هذه الفترة بأنها كانت عصيبة، إذ كان الخوف يتملكها وهي تشاهد النيران في طريقها إلى الأشجار النادرة. وتشارك أوفورد في الفريق المشرف على أبحاث وإدارة أشجار الصنوبر. وأصبحت الشجرة القديمة بفضل أبحاثها، نموذجا عالميا لإنقاذ الأنواع المهددة بالانقراض.
وتقول أوفورد إن أشجار ووليمي تحظى باهتمام عالمي يفوق ما تحظى به سائر الأنواع النباتية المهددة بالانقراض، لأنها تعكس جهود الحفاظ على البيئة وتثير مخيلة الشغوفين بالديناصورات.
ووصف مات كين، وزير الطاقة والبيئة بولاية نيو ساوث ويلز، جهود إنقاذ أشجار ووليمي من الحرائق بأنها “مهمة بيئية غير مسبوقة”. ومنذ يناير/كانون الثاني الماضي، انصب الاهتمام على أشجار ووليمي التي نُقلت إلى منطقة الغابات البرية من حدائق النباتات بالجبال الزرقاء، التي تضررت من الحريق.
ويقول بريت سومريل، كبير علماء النبات بحديقة النباتات الملكية بسيدني: “كنا قد زرعنا بعض أشجار ووليمي الصنوبرية في إحدى الغابات التي أتت عليها النيران، وأتيحت لنا مراقبة ما يحدث لأشجار ووليمي عندما تحترق في البرية. فمعظم الأشجار التي طالتها النيران في الحدائق كنا قد زرعناها في مشاتلنا منذ نحو ثماني سنوات. وبعضها كان قد أنبت ثمارا وبذورا”.
لكنه يرى أن تأثير الحريق على الأشجار الفتية كان أشد منه على الأشجار المعمرة التي اكتسبت مقاومة مع مرور الزمن.
لكن الملاحظات التي سجلها الباحثون عن مدى تأثير الحريق وتغير المناخ وغيرهما من المخاطر الكبرى، مثل الآفة التي تسبب تعفن الجذور، على أشجار ووليمي المزورعة والمنقولة، ساعدتهم في وضع خطة لحماية هذه الأشجار مستقبلا.
وتقول أوفورد إن أحد الأساليب التي يستخدمها الباحثون للحفاظ على الأنواع البرية هي زراعة هذه النباتات في مناطق مختلفة، مثل حديقة الحيوان، لمراقبة مدى قدرتها على تحمل الظروف المناخية في كل منها.
وبإمكان محبي النباتات والراغبين في رؤية هذه الأشجار الرائعة العتيقة على الطبيعة، مشاهدتها في حدائق النباتات الثلاث في سيدني، والمتنزهات المئوية (سنتنيال بارك)، وحدائق النباتات الملكية في ملبورن. ويوجد أيضا في حدائق كيو الملكية للنباتات على مشارف لندن، حيث المناخ أكثر برودة ومطرا مقارنة بأستراليا، بعض من أفضل النماذج لأشجار ووليمي التي تتمتع بحالة جيدة.
وتعزو أوفورد ذلك إلى أن أشجار ووليمي تنمو في المناطق الباردة وكثيرة الأمطار وغير المشمسة، كما هو الحال في إنجلترا. في حين أن أستراليا تتميز بشمسها الساطعة التي قد لا تناسب هذه الأشجار.
ودشنت حديقة سيدني الملكية للنباتات مشروعا علميا يدعو الجمهور لملء استبيان كلما شاهدوا إحدى الأشجار التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ بعد أن نجحت زراعتها في مختلف أنحاء العالم.
وترى أوفورد أن هذه المبادرة تنمي لدى الناس الشعور بالمسؤولية عن حماية هذا النوع من الأشجار. وقد تساعدهم على التعرف على تاريخ هذه الأشجار التي تعود إلى عصر الديناصورات.
لكن في الوقت الراهن لا يسمح لأحد بالاقتراب من أشجار ووليمي التي تنمو في المتنزه الوطني. وتقول مينكي: “بإمكان الناس مشاهدة هذه الأشجار في حدائق النباتات وإلقاء نظرة عليها وتقدير ندرتها، فهذه الأشجار فريدة من نوعها. وأفضل طريقة لحمايتها هي الابتعاد عنها في البرية قدر الإمكان”.[ads3]