دويتشه فيله : وثائق فنسن .. صفقات مشبوهة مع سوريا تتسبب في مقتل 20 بحاراً

لقد كان مسعى محفوفا بالمخاطر. ما حصل في الـ 21 يناير 2019 قبالة سواحل شبه جزيرة القرم في مضيق كيرتش انتهى بالنسبة إلى 20 بحارة بالموت. فأعضاء طاقم ناقلتي نفط حاولوا وسط البحر نقل الغاز المسال من سفينة إلى أخرى. والعملية فشلت ووقع انفجار هائل، واشتعلت الناقلتان.

وعملية الانقاذ تأخرت، لأن قوارب البحث والإطفاء خسرت وقتا ثمينا: فناقلتا النفط كانتا تحملان موادا غير مشروعة وخوفا من السلطات قامتا بعطيل أنظمة الرصد. وفي النهاية تمكن 14 فقط من أعضاء الطاقم من النجاة من الناقلتين المحترقتين. وغالبية الضحايا هم مواطنون هنود وأتراك.

حزن على بحار ميت

وبين الموتى كان يوجد أيضا أردوغان ستينوك. وقبلها بشهر كان البحار البالغ من العمر 45 عاما في إسطنبول على متن سفينة “كاندي” Candy المسيرة تحت علم تنزاني. وكانت تلك مهمته الأولى بتكليف من الشركة التي تملك الناقلتين المتورطتين في الحادث. وقبل وفاته أعلم ستينوك أخته بأن السفينة ستتوجه إلى ليبيا. لكن في واقع الأمر سوريا كانت هي الهدف.

وتبين لاحقا أنه ليس فقط سفينة كاندي وكذلك سفينة مايسترو Maestro العاملة تحت علم تنزاني، بل أيضا شركة ملينيوم المالكة التي تقع في الولايات المتحدة الأمريكية ضمن قائمة سوداء. ويبدو أنهم تفادوا عقوبات ضد سوريا. وشقيقة أردوغان ستينوك حوليا تحمل مالكي ميلينيوم مسؤولية وفاة أعضاء الطاقم الـ 20. وقالت لدويتشه فيله: “لقد تم تجنيدهم باعتماد حقائق خاطئة ومن بقي هم أطفال ليس لهم الآن آباء”.

والعناصر الخفية وراء العملية الخطيرة في مضيق كيرتش ـ هذا ما تشير إليه تحريات شاملة شارك فيها أكثر من 400 صحفي من 88 بلدا ـ ينتمون على ما يظهر لشبكة دولية مشاركة في نقل النفط ومنتجات غازية من وإلى سوريا.

وهذا النوع من التجارة يمثل خرقا مباشرا ضد العقوبات الدولية. فاستيراد وشراء ونقل النفط والمنتجات النفطية من سوريا ممنوعة. والعقوبات المعنية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سارية المفعول منذ 2011. وبالرغم من ذلك فإن الصفقات تحصل تحت قوة رصد الرادار. فكيف تعمل هذه الشبكة؟ وكيف يتم تحريك الأموال من تجارة النفط غير القانونية؟

تسريبات وثائق فنسن

ونظرة إلى الممارسات المحظورة التي انتعشت بها تلك التجارة لوقت طويل تكشفها ما تُسمى أخبار الشبهات من البنوك الموجودة أو لها فروع في الولايات المتحدة الأمريكية. وكان يجب عرض تلك التقارير حول الأنشطة المشبوهة على شبكة التحقيق في الجرائم الماليّة. فهذا القسم داخل وزارة المالية الأمريكية مسؤول عن مكافحة غسل الأموال والجرائم المالية. وهذا النوع من بلاغات الشبهة لا يعني بالضرورة دليلا على سلوك خاطئ أو صفقات محظورة. لكن في هذه الحالة حركت حجرة من فوق الجبل.

وفي 2019 حصلت المؤسسة الاعلامية الأمريكية BuzzFeed News على بنك بيانات كبير بهذا النوع من إعلانات الشبهة. المؤسسة الإعلامية حولت تلك البيانات إلى الاتحاد الدولي للمحققين الصحفيين. وفي الشهور الـ 16 الماضية قام مئات الصحفيين بتقييم تلك الوثائق المسربة.

والنتيجة هي ما تُسمى وثائق فنسن. فهذا التحقيق الدولي الكبير يعتمد على أساس تقارير البنوك السرية ووثائق أخرى. كما تم إجراء عشرات المقابلات ومجموع المادة يقدم آفاقا فريدة في عالم التسريبات المالية غير القانونية.

تشابك مالي عبر القارة

ومن أجل إضعاف شبكة مساندي الرئيس السوري بشار الأسد، أصدرت وزارة المالية الأمريكية في أغسطس/ آب 2015 علاوة على العقوبات القائمة إجراءات إضافية. وكانت موجهة ضد موردي منتجات الطاقة يستغلها النظام السوري. وفي القائمة يوجد أشخاص وكذلك شركات.

وإحدى الشركات المدرجة حديثا ضمن القائمة السوداء هي شركة ميلينيوم للطاقة التي كانت تملك ناقلتي النفط المحترقتين. وملينيوم مسجلة في بنما ومقرها في تركيا. وتكشف وزارة المالية الأمريكية أن ملينيوم نقلت بانتظام منتجات نفطية إلى ميناء بانياس السوري. ولهذا السبب تم حجز ناقلتي الشركة. ومن بين الأشخاص المعاقبين توجد سلسلة من الموظفين المرموقين في الشركة: المدير ورجلي أعمال وموظف آخر.

كذلك شركة على ارتباط وثيق مع ميلينيوم معنية بالعقوبات تدعى: Blue Energy. وهي شركة مسجلة في دولة الكاريبي سانت كيتس ونفيس. وحسب معطيات وزارة المالية الأمريكية استخدمت ميلينيوم شريكتها لتمويه تحويلات مالية لإمدادات تقع تحت عقوبات سوريا. لكن بغض النظر عن تلك القيود واصلت ناقلات ميلينيوم نقل منتجات نفطية أخرى إلى سوريا ومن الخارج. وظلت تلك المكائد لوقت طويل غير معروفة. فقط بعد الانفجار المميت في مضيق كيرتش الذي توفي فيه البحار أردوغان ستينوك و19 بحارة إضافيين انكشفت القضية برمتها.

صلات مع واحة الضرائب مالطا

وفي وثائق فنسن توجد مؤشرات على أن “بيتكيم Petkim”، أهم شركة نفطية في تركيا قد تكون مشاركة في الأنشطة غير القانونية للشركتين الآنفتين. وتم إنشاء شركة النفط القابضة بيتكيم في 1965 كشركة حكومية. وبعدما تخلت الدولة التركية عن حصتها بقيمة 51 في المائة لاتحاد SOCAR & Turcas تمت خصخصة بيتكيم في عام 2008. وبعد أربع سنوات اشترت شركة النفط الأذربيجانية معظم أسهم الاتحاد وتم طرح الباقي في بورصة إسطنبول.

وفي وثائق فنسن تقود آثار الشبهة التي تكشف عن “بيتكيم” أولا إلى مالطا. ففي الوثائق المسربة يوجد إعلان شبهة من مصرف “ميلون BNY Mellon” الأمريكي يعود لعام 2016: ويتعلق الأمر بأنشطة مثيرة في ارتباط مع شركة باسم “بيتروكيم”، شركة مقرها في مالطا. وتُعتبر الجزيرة في البحر المتوسط واحة ضريبية. وحسب المصرف الأمريكي توجد اتصالات تجارية مباشرة بين “بيتروكيم” والشركة التركية “بيتكيم”.

وكان المصرف الأمريكي يعمل كمصرف مراسلة لصالح “بيتروكيم” لتسيير المعاملات الخارجية للشركة ولاحظ بأن الشركة الأخيرة أدارت بين مارس 2010 ويوليو 2016 تحويلات أموال نقدية بقيمة تفوق 224 مليون دولار. وفي إعلان الشبهة ورد بأنه توجد تحويلات مثيرة خرقت بموجبها “بيتروكيم” ربما عقوبات سوريا.

بيتروكيم ـ شركة صندوق بريد مفترضة

ووصف المصرف الأمريكي “بيتروكيم” في وثائقه المسربة “كشركة صندوق بريد” تدير عنوانا في منطقة المخاطر القانونية مالطا. وذُكر هناك أيضا أن “بيتروكيم” في مالطا تستخدم عنوانا متطابقا مع العديد من الشركات والأشخاص الذين وُصفوا في إطار عقوبات ايران أنهم يدخلون في الحظر الأمريكي، وقد يكونون أشخاصا أو شركات. وثروتهم مصادرة ولا يحق للمواطنين الأمريكيين التعامل معهم.

وحسب معطيات المصرف الأمريكي أبرمت الشركة الوهمية بيتروكيم والشركة التركية بيتكيم بين مارس 2010 ويناير 2016 “تحويلات مشبوهة” بقيمة تتجاوز 90 مليون دولار. وحتى بين بيتروكيم وشريك ميلينيوم بلو إنرجي تم تحويل كمية من الأموال: ما مجموعه أكثر من 13 مليون دولار فقط بين يوليو وديسمبر 2014.

وفيما يُسمى وثائق الواحات للاتحاد الدولي للمحققين الصحفيين تم الوقوف في عام 2017 على اتصالات مباشرة بين بيتروكيم والشركة التركية بيتكيم. والتحريات كشفت مثلا أن سمير كريموف، نائب الرئيس السابق لـ Socar كان في آن واحد مديرا وممثلا قانونيا لبيتروكيم. والعلاقات التجارية بين الشركتين موثقة كتابيا في مواضع أخرى كالحسابات.

ردود فعل على الاتهامات

وتمت إدارة شركة الصندوق البريدي المفترضة بيتروكيم بين 2009 و2017 من قبل مكتب المحاماة Fenlex الذي مقره أيضا في مالطا. وردا على استفسار من الاتحاد الدولي للمحققين الصحفيين أعلن المكتب بأن بيتروكيم لم تكن مشاركة في صفقات “تخرق العقوبات السارية للولايات المتحدة وأوروبا في ارتباط مع سوريا”.

وحسب مزاعم المكتب لم تقم بيتروكيم “بأية صفقات مع شركات سورية ولم تنقل بضائع من وإلى سوريا”. أما شركة النفط التركية العملاقة بيتكيم ومالكتها بالأغلبية سوكار يرفضان اتخاذ أي موقف تجاه الاتهمات. ومصرف BNY Mellon الأمريكي يعرض على بيتروكيم خدماته كمصرف مراسلة للصفقات الخارجية ـ رغم تقرير الشبهة المحرر داخل المؤسسة.

معالجة قانونية لكارثة الحريق

وحاليا يمضي تحقيق حول حريق السفينتين المميت في مضيق كيرتش. ومدير ميلينيوم واثنان من رجال أعماله وقبطانا الناقلتين المحترقتين يجب عليهم المثول أمام المحكمة في إسطنبول. وجلسة الاستماع المقبلة ستكون في 20 نوفمبر المقبل.

وحوليا ستينوك التي فقدت شقيقها في الحادثة أمام شبه جزيرة القرم لا تريد فقدان الأمل في العدالة. لكن لديها شكوك، لأنه في محاكمة سابقة تم إطلاق سراح قبطاني كاندي ومايسترو. وحوليا ستينوك لها أمنية كبيرة:” كأقارب لضحايا هذه الكارثة ننتظر فقط أن تلقى العدالة مكافئتها وأن يحصل المسؤولون على العقوبة التي يستحقونها”.

بلين أونكر – دويتشه فيله[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها