BBC : فيروس كورونا ينهي ” وصمة العار ” التي تلاحق من يغير مهنته في ألمانيا

ام يكن توبياس شليغل قد تجاوز السابعة عشرة من عمره عندما أصبح مقدم برامج تلفزيونية في مدينة كولونيا الألمانية، بعد أن جرى اختياره بتجربة أداء في الشارع، ليعمل بعدها بدوام كامل أمام الكاميرا طوال 20 عاماً، لكن وفي عام 2014، شعر أنه يرغب في تغيير مهنته.

يقول شليغل، الذي أصبح عمره الآن 43 عاماً: “لم يعد إجراء مقابلات مع أشخاص يقومون بأشياء مثيرة للاهتمام كافياً بالنسبة لي، وكان علي أن أسأل نفسي (ماذا الذي تفعله أنت شخصياً؟)، وكنت أعلم أن ما أرغب به هو مساعدة الناس”.

لذلك، وبرغم تخوف عائلته وأصدقائه وزملائه، ترك شليغل عمله في البرنامج التلفزيوني، وأصبح مسعفاً، ومنذ ذلك الحين يشعر بالسعادة والرضا في عمله الجديد.

ويُعرف الأشخاص الذين يغيرون مهنهم، مثل شليغل، في ألمانيا باسم (كفيرانشتايغر)، وهو مصطلح من الصعب ترجمته، ويفتقر إلى مرادف حقيقي، لكن معناه الفضفاض بالإنجليزية هو “الوافد الجانبي”، أي الشخص الذي يترك مهنته إلى مهنة جديدة رغم أنه لا يمتلك مؤهلات مناسبة لها، أما مقابله بالعربية فيمكن أن يكون “المتحولون مهنياً”.

ووفقا لألكسندر تزيتلهاك، العميد المشارك في كلية برلين للأعمال والابتكار، فإن كلمة “كفيرانشتايغر” هي وصف شامل للذين ينتقلون إلى وظيفة أو صناعة لا يملكون خبرة سابقة بها.

و”كفير”، وهو الجزء الأول من الكلمة، يحمل معنى مخالفة الوضع السائد، ويمكن اعتبار الشخص الذي يوصف بأنه “كفير” متطرفاً أو مثيراً للمشاكل، مثل حركة (كفير دينكر) التي اعترضت على القيود المفروضة في ألمانيا بسبب انتشار وباء كورونا.

ونتيجةً لذلك، يعتبر مصطلح “كفيرانشتايغر” بمثابة وصمة عار ويوضح تزيتلهاك الأمر، قائلاً: “في ألمانيا، ذلك البلد المحافظ والمتصلب، فإن هذه الكلمة تحمل دلالة تحيز ضد الشخص، وتشير إلى أنه غير تقليدي، وليس الشخص الذي تتوقعه للقيام بالوظيفة، كما قد يحمل هذا إشارة إلى فشل مهني سابق، وهذا هو سبب تغييره لمهنته”.

لكن رغم أن الذهاب بعكس ما تقضي به تقاليد العمل المعروفة في ألمانيا كان دائماً مستهجناً، إضافةً إلى المخاطرة التي ينطوي عليها تغيير المهنة، إلا أنه يوجد لدى الناس اليوم ميل أكثر من أي وقت مضى إلى أن يغيروا مهنهم وينضموا إلى جماعة “كفيرانشتايغر”، كما غيّر بعض أرباب العمل موقفهم بشأن توظيف هؤلاء، الأمر الذي لا يساعد فقط في جعل الموظفين أكثر سعادة ورضا، وإنما يساهم أيضاً في إنعاش الاقتصاد الألماني الذي يقف على شفا أزمة.

ويتيح نظام التعليم المزدوج للطلاب في ألمانيا، بدمجه بين التعليم المدرسي والتدريب المهني، أن يباشروا التدريب على وظائفهم المستقبلية المختارة ابتداء من عمر 15 عاماً، وهذا يعني أن العاملين يستمرون بالعمل في المهنة نفسها لفترة طويلة.

ويعمل معظم الألمان في نفس الوظيفة لمدة 11 عاماً في المتوسط، وهناك فوائد عديدة لهذا النظام، فهو يساهم في تكوين قوى عاملة شابة ذات مهارات عالية (أشاد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما بهذا النظام في خطابه السنوي عام 2013 عن حالة الاتحاد، قائلاً: “هؤلاء الأطفال الألمان، سيكونون جاهزين للعمل عندما يتخرجون من المدرسة الثانوية”).

لكن هناك سلبيات لهذا النظام أيضاً، فأكثر من 80% من الشركات تقوم بتوظيف متدربيها في وظائف بدوام كامل، وهذا يعني أن الموظفين الشباب يبقون لسنوات عديدة حبيسي مؤسسة واحدة أو منصب واحد، ولا يتاح لهم البحث عن مستقبل جديد مختلف، كما أن تغيير المهنة يزداد صعوبة بمرور الوقت.

يقول شليغل، الذي كان عليه أن يتدرب طوال ثلاث سنوات بدوام كامل وبراتب شهري قدره 800 يورو فقط (975 دولاراً)، لكي يصبح مسعفًا: “لا يوجد دعم للأشخاص الذين يرغبون في العودة إلى الدراسة، كان معي مبلغ جيد ادخرته من وظيفتي كمقدم برنامج تلفزيوني، لكن الشخص الذي لا يملك ذلك لن يكون قادراً على البدء من جديد”.

لكن رغم هذه العقبات، يفكر مزيد من الألمان، وأكثر من أي وقت مضى، في تغيير حياتهم المهنية بعد انتشار وباء كورونا، ووفقاً لنتائج مسح أجرته “غكزينغ”، وهي منصة اجتماعية تركز على العمل في ألمانيا، في أيلول الماضي، وشارك فيه 1500 موظف في ألمانيا والنمسا وسويسرا، فقد أجاب ثلثهم بأن إيجاد المعنى والمتعة في العمل اكتسب مزيداً من الأهمية منذ انتشار الوباء.

لكن اتخاذ القرار والانضمام إلى فئة الـ” كفيرانشتايغر” ليس سهلاً، ويقول كريس بياك، المدرب المهني المقيم في دوسلدورف والذي بدأ حياته المهنية بالعمل ممرضاً عندما كان في السابعة عشرة من عمره: “قال والداي إنها ستكون مهنة مستقرة”، لكنه كان دائماً يحلم بالعمل في الراديو، ويضيف: “كنت أرغب بالعمل في الراديو منذ أن كنت في الخامسة من عمري، وفي الليل، كنت أستمع إلى المذيعين وأصواتهم الجميلة العميقة”.

يقول بياك إن العودة إلى المدرسة في الثانية والعشرين من العمر، والتحول إلى “كفيرانشتايغر” كان أمراً “صعباً للغاية”، ويوضح: “كنت أعمل وأدرس سبعة أيام في الأسبوع لمدة 15 ساعة في اليوم، ومرت علي أوقات لم أكن أتناول فيها الطعام لأنه كان علي الاختيار بين الطعام أو شراء البنزين”، لكن حياته المهنية أخذت مساراً مثيراً وغير متوقع، حيث قاده العمل في محطة إذاعية إلى الصحافة الاقتصادية، ثم العمل كمستشار لشركات دولية مثل “مايكروسوفت”، وألهمته هذه التجارب المتنوعة تأليف كتاب بعنوان “كيف تحصل على وظائف وتؤثر على الألمان”.

لكن تجارب بياك المهنية لم تنته عند هذا الحد، إذ التحق مرةً أخرى بعالم الـ”كفيرانشتايغر”، وهو الآن يقوم بتدريب “متحولين مهنياً” آخرين على اكتساب المهارات المناسبة، وتحديث سيرهم المهنية، لتصبح مناسبة لسوق العمل التي تتميز بتنافسية عالية في ألمانيا.

ولا يقتصر الاتجاه إلى تغيير المهنة على الألمان الأصليين وحدهم، فالمهاجرون الذين تلقوا تعليمهم وتدريبهم خارج النظام التعليمي-التوظيفي الألماني يتم احتسابهم أيضاً ضمن فئة “كفيرانشتايغر”، كما يقول تزيتلهاك، ويواجهون عوائق مماثلةً في طريقهم للبحث عن وظيفة.

ومع ذلك، من المفيد للشركات أن تبدأ في قبول المزيد من المتحولين مهنياً بين موظفيها، ومع الارتفاع الكبير في أعداد المهاجرين في ألمانيا، قد يكون الـ “كفيرانشتايغر” القادمون من دول أخرى على وشك إحداث ثورة في سوق القوى العاملة، وهي الثورة التي تأتي في الوقت المناسب تماماً، فالاقتصاد الألماني، الذي يعد رابع أكبر اقتصاد في العالم، يمر بأزمة، ففي غضون 10 سنوات، عندما يتقاعد جيل طفرة المواليد التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية، سينقص عدد العاملين في ألمانيا بمقدار ثمانية ملايين شخص، وهو ما يعني انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 20%، كما يقول تزيتلهاك، الذي يضيف: “لدينا الآن حركة ضخمة لجلب العمالة، إن اقتصاد كفيرانشتايغر قادم إلينا”.

ويعتبر المبرمج توفيق ميري من ضمن موجة الـ “كفيرانشتايغر” الجديدة، التي ينضم أفرادها إلى القوى العاملة الألمانية، إذ اضطر توفيق إلى الهرب من وطنه سوريا عام 2013، وترك خلفه مهنته الناجحة كمدرس لغة إنجليزية، ليصبح مهندس برمجيات، وهي مهنة مطلوبة في ألمانيا.

درس توفيق البرمجة في مدرسة “ريدي”، وهي مدرسة رقمية غير ربحية مقرها برلين، وفي البداية، لم يكن يتلقى دعوات لإجراء مقابلات توظيف مع شركات كبيرة، خاصةً وأن سيرته المهنية لا تتضمن شهادة في علوم الكمبيوتر، لكن أساتذته حثوه على مواصلة البحث عن وظيفة برغم تصنيفه من ضمن الـ “كفيرانشتايغر”.

وحصل توفيق في النهاية على وظيفة في البرمجة لدى شركة ناشئة، وقد أصبحت شركات التكنولوجيا الجديدة في برلين، مثل الشركة التي يعمل فيها الآن، ملاذاً للراغبين في العمل في مهن جديدة بعد أن قطعوا مسارات وظيفية متعددة وغير تقليدية، مثل توفيق.

ويقول تزيتيلهاك، الذي يعمل أيضاً مستشاراً لهذه الشركات الناشئة: “تحتاج الشركات الناشئة أشخاصاً قادرين على الجمع بين مهارتي التواصل والهندسة، وقادرين على شرح الهندسة لغير المهندسين، وما إلى ذلك”.

وقد أدرك سياسيون في الآونة الأخيرة فوائد توظيف الراغبين بالعمل في مهن ليس لديهم فيها خبرات سابقة، وتعمل الحكومة الألمانية، التي تقودها المستشارة أنغيلا ميركل، التي قد تكون أشهر “كفيرانشتايغر” على الإطلاق (عالمة أبحاث قبل أن تدخل المعترك السياسي) على إزالة الوصمة المرتبطة بتغيير المهنة من خلال موقع رسمي على الإنترنت مخصص لـ “كفيراينشتايغر”، ويتضمن مقابلات ونصائح حول تغيير المهنة.

ومع ذلك، ما يزال أمام المتحولين مهنياً طريق طويل قبل أن تتقبلهم ألمانيا بشكل كامل، ومن العوامل التي قد تسرع حدوث ذلك أن يشهد الاقتصاد الألماني مزيداً من النمو والازدهار في المستقبل، إضافةً إلى احتمال أن تشجيع الـ”كفيراينشتايغر” قد يعني وجود قوى عاملة أكثر سعادة وشغفاً بالعمل الذي تقوم به.

والأمثلة مشجعة، فتوفيق، مثلاً، لم ينضم إلى القوى العاملة الألمانية فحسب، بل أثبت أن لديه ارتباطاً عميقاً وشغفاً كبيراً بعمله، أما شليغل، المسعف (المتحول مهنياً)، فيعمل ضمن فريق سيارة إسعاف في نوبات كل أسبوعين في هامبورغ حيث يعيش، وقد وجد الشعور بالرضا وتحقيق الذات الذي كان يتوق إليه.

أما أولي مارشنر، التي استقالت من عملها السابق كوكيلة إعلانات وافتتحت مطعماً صغيراً في أحد أحياء برلين، فتؤكد أنها لم تلتفت إلى الخلف قط، وتقول: “بعض أصدقائي يحسدونني، لأنهم يرون أنني أحب عملي، بينما هم يعملون بانتظار عطلة نهاية الأسبوع والإجازة.. إذا لم تكن سعيداً، فلا يمكن أن تكون بصحة جيدة، وأنا سعيدة للغاية الآن”.

ولن يطول الأمر حتى يصبح تغيير المهنة في ألمانيا إنجازاً يحتفى به، بعد أن كان نقيصةً ووصمة عار، برأي يزيتلهالك، الذي يقول: “في غضون خمس سنوات، سنقول إن هؤلاء الذين غيروا مهنهم هم أشخاص خارقون، وإننا نحتاج المزيد منهم!، لن تعود هذه الكلمة وصمة عار بعد الآن”. (BBC)[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها