دويتشه فيلا : مستشارة الأزمات .. ميركل تضع بصمتها على السياسة الخارجية لألمانيا
كان من الصعب أن تجد شخصاً خارج ألمانيا يعرف أنغيلا ميركل عندما أصبحت مستشارة لأول مرة في عام 2005، وربما أيضاً يكاد لم يكن هناك أحد بمقدوره توقع البصمة التي ستتركها ميركل في العالم، لكن سرعان ما رسّخت موطئ قدم لهاـ حتى في السياسة الخارجية، فمنذ البداية، قامت بتشكيل السياسة الخارجية بنفسها إلى حد كبير، بدلاً من ترك ذلك لكل وزير خارجية على حده.
وعند استضافتها قمة مجموعة الثماني في منتجع “هايليغيندام” على بحر البلطيق في عام 2007، كانت تتعامل ببراعة مع أهم رؤساء الدول والحكومات في العالم، ولو ألقينا نظرة على الماضي، لرأينا مسيرة مثالية.
رغم ذلك، تعين على المستشارة الانتقال بسرعة إلى وضع الأزمة. ففي عام 2008، اندلعت الأزمة المالية العالمية، وتعرض اليورو، وهو أحد أقوى رموز الوحدة الأوروبية، للضغط، وحذرت المستشارة أنه: “إذا فشل اليورو، فسوف تفشل أوروبا”.
وعلى مضض تقريباً، تولت أقوى دولة اقتصادياً في الاتحاد الأوروبي الدور القيادي في أوروبا تحت قيادة ميركل، فمن جهة، أجبرت الحكومة الاتحادية البلدان المثقلة بالديون بشكل خاص على اتباع نهج تقشف وإصلاح صارم، حتى أن بعض النقاد في اليونان ادعوا أن لتلك الأجراءات أوجه تشابه مع الاحتلال الألماني في الحرب العالمية الثانية، لكن من جهة أخرى، وافقت ميركل على مساعدات أوروبية واسعة النطاق، ما جعل المسؤولية الألمانية عن ديون البلدان الأخرى تتزايد بشكل كبير، لكن حقيقة أن بقية دول الاتحاد الأوروبي تقبلت بشكل عام الدور القيادي الألماني الجديد هي أيضاً بفضل الحضور الحساس لميركل، فهي تجمع بين “ثقافة ضبط النفس” و “ثقافة المسؤولية”، كما يقول العالم في الشؤون السياسية، يوهانس فارفيك، من جامعة هاله في حوار مع شبكة “DW” الإعلامية.
لكن الدور المتنامي لألمانيا يؤدي أيضاً إلى اختلال توازن القوى مع فرنسا، رغم أن ميركل ملتزمة صراحة بالعلاقة مع هذا الشريك الأقرب، وبسبب التعاون الجيد مع الرئيس نيكولا ساركوزي، اخترعت وسائل الإعلام اسماً يدل على التعايش أو التكافل وهو “ميركوزي” (اسم مشتق من دمج اسمي ميركل وساركوزي)، لكن ميركل جعلت مطالب العديد من الرؤساء الفرنسيين، وآخرهم إيمانويل ماكرون، بتعميق دور الاتحاد الأوروبي، مثلاً من خلال إنشاء منصب لوزير مالية أوروبي، “تضيع هباء”، وهذه “فرصة ضائعة”، كما يقول هينيغ هوف، من الجمعية الألمانية للسياسة الخارجية.
وفارفيك أيضاً يتحدث لشبكة “DW” عن “الاغتراب (الألماني) المتزايد” عن فرنسا، ويرى أن ميركل ليس لديها “رؤى كبيرة” تهدف لتعميق الاتحاد الأوروبي.
وبخلاف ذلك، تواصل المستشارة السياسة الخارجية للحكومات الاتحادثة السابقة: سياسة موضوعية ودون مبادرات كبيرة، وفي اتفاق جيد مع جميع الأطراف، إذا أمكن ذلك، مع مراعاة المصالح الاقتصادية العالمية لألمانيا.
إنها سياسة تؤتي ثمارها، فالتجارة، خاصة مع الصين، تزايدت بسرعة، وكثيراً ما سافرت ميركل إلى الصين وبدت منبهرةً، ويرى هوف أن ميركل لديها “إعجاب، يقترب من الرهبة، بالقوة الاقتصادية الصينية”، وإنها تتعامل مع قضايا حقوق الإنسان بحذر هناك.
ويميل الأمريكيون إلى الإشارة إلى الجانب السلبي لزيادة الاعتماد على الصين، ويعتقد هوف أن ميركل “قللت من شأن المخاطر الناشئة عن الأنظمة الاستبدادية، وخاصة الصين وروسيا، اللتين تعولان أيضاً على القوة الجيو-اقتصادية والتضليل وتقويض الغرب”.
ولو استقالت ميركل في بداية عام 2015، فإن مستشاريتها الناجحة بشكل عام كانت ستصبح جزءاً من الماضي سريعاً، لكن لم يكن هناك شيء جعلها معروفة جداً في جميع أنحاء العالم، ولم يكن هناك شيء أثار هكذا استقطاب في الداخل والخارج مثل قرارها الفردي في أيلول عام 2015 بإبقاء الحدود الألمانية مفتوحة للاجئين والمهاجرين الوافدين، وهي تبرر ذلك بـ”حب الخير المسيحي”، وكذلك بتجربتها في “جمهورية ألمانية الديمقراطية” ذات الحدود التي لم يكن من الممكن عبورها.
وكانت ميركل تسمح عن طيب خاطر بالتقاط صور سيلفي مع لاجئين سوريين، وأصبحت ألمانياً مكاناً يتوق إليه الناس في جميع أنحاء العالم، والبعض أصبح يقدرها وكأنها قديسة، ففي عام 2015، صنفتها مجلة تايم كـ”شخصية العام” وحتى كـ”مستشارة العالم الحر”، لكن البعض الآخر، وخاصةً الحكومات في شرق الاتحاد الأوروبي، استاء منها، لمحاولتها فرض سياسة اللجوء السخية على الاتحاد الأوروبي بأكمله، فازدادت الشعبوية اليمينية في أوروبا بشكل ملحوظ منذ ذلك الحين.
وفي البداية، كانت ميركل متحمسةً للعلاقات عبر الأطلسي، فعندما كانت سياسية معارضة، أيدت حرب العراق التي شنها الرئيس الأمريكي جورج بوش، والتي رفضتها الغالبية العظمى من الشعب الألماني في ذلك الوقت، لكن العلاقات بدأت تفتر، لأن الولايات المتحدة في عهد بوش وخليفته أوباما أصبحت تتوجه بشكل متزايد نحو آسيا، وفي عهد أوباما، الذي وصف ميركل بشريكته الأكثر أهمية في السياسة الخارجية، ظهر في عام 2013 أن الاستخبارات الأمريكية قد تجسست على المستشارة لسنوات، وميركل قالت غاضبة: “التجسس على الأصدقاء، لا يجوز أبدا”.
ثم ساءت الأوضاع السياسية العالمية فجأةً وبسرعة كبيرة، فقد ضمت روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية في عام 2014، وصوت البريطانيون في استفتاء عام 2016 لمغادرة الاتحاد الأوروبي، وبعد ذلك بوقت قصير، أصبح دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وبشعاره “أمريكا أولاً” لم يأبه بالتعددية، بل إنه أيضاً وضع حلف شمال الأطلسي “الناتو” موضع شك.
وفيما يتعلق بالولايات المتحدة الأمريكية، عبرت ميركل عن خيبة أملها في عام 2017، بالقول: “لقد ولى الزمن الذي كان يمكننا فيه الاعتماد بشكل كامل على الآخرين”.
وهذه السحب الداكنة، أقنعت ميركل بالترشح للمستشارية في الانتخابات العامة التي جرت عام 2017، وبعد هذه الانتخابات تمكنت من قيادة حكومة رابعة.
ومنذ ذلك الحين، على أبعد تقدير، رأت ميركل نفسها على أنها صخرة في خضم الأمواج السياسية العالمية، ويشرح فارفيك دوافعها، بالقول: “ألمانيا تعتمد أكثر من غيرها على الأطر متعددة الأطراف”.
ويشهد هوف على “قدرتها الاستثنائية على إبقاء الحوار بين أوروبا والغرب من جهة وأطراف النزاع من جهة أخرى”، وقد حاولت ميركل أن تفعل ذلك مراراً وتكراراً، لكن دون جدوى مؤخراً، فيما يتعلق بالصراع بين روسيا وأوكرانيا، ومع ذلك، تمسكت بالمشروع الروسي الألماني للغاز الطبيعي المسمى “نورد ستريم 2″، والذي تعارضه الولايات المتحدة ودول شرق الاتحاد الأوروبي، لكن العلاقات مع الولايات المتحدة تحسنت بشكل ملحوظ مع تولي جو بايدن لمنصبه في عام 2021. وفي تموز، دعا بايدن ميركل إلى واشنطن لتكون الأولى بذلك بين الزعماء الأوروبيين، وأشاد بعملها السياسي ووصفه بأنه “تاريخي”.
ولم تمنع الكراهية الشخصية أو الاختلافات السياسية في الرأي ميركل أبداً من السعي لإجراء محادثات مع رؤساء دول وحكومات استبداديين، مثل فلاديمير بوتين أو رجب طيب أردوغان أو شي جين بينغ، وذلك لأسباب تتعلق بالمصالح العليا للدولة، ويقول فارفيك إن ميركل لديها “قدرة أسطورية على تحمل المعاناة” في المفاوضات.
ما هو إرث ميركل في السياسة الخارجية؟، لعله ما قالته في جامعة هارفارد عام 2019 عندما حصلت على الدكتواره الفخرية السادسة عشرة: “لا يمكن اعتبار أي شيء بديهياً.. حرياتنا الفردية ليست أمراً بديهياً ولا يمكن اعتبار الديمقراطية أمراً بديهياً ولا السلام ولا الازدهار”.
واللحظات العظيمة لميركل جاءت بشكل أساسي خلال مواقف الأزمات، وكان هناك عدد كبير منها في فترة مستشاريتها الطويلة، ولم تكن أبداً متحدثة تثير الحماس، لكن خلال الأزمات، ظهر لدى ميركل ما يسميه فارفيك “مزيجاً من البراغماتية والحزم وقوة الشخصية”.
ويعتبرها هوف “مديرة أزمات لا تكل”، وحققت “أشياء عظيمة”، لكنه يرى أن ميركل كانت “دائماً معنية بالحفاظ على الموجود بالدرجة الأولى “، ويضيف: “قليلاً ما استخدمت الأزمات كفرصة لبدايات جديدة وتغيير أساسي”، مشيراً إلى أنه كان بإمكانها تعزيز خطوات اندماج أكبر في الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال.
ويلخص فارفيك السياسة الخارجية لميركل على النحو التالي: “لقد فهمت أن ألمانيا لها مصالح عالمية، من جهة، لكن ألمانيا أصغر من أن تحقق الأشياء بمفردها، من جهة أخرى، ومن جهة ثالثة فإنه ونظراً لحجمها ودورها في أوروبا، فإنه محكوم عليها بتولى دور القيادة”.
كريستوف هاسلباخ – دويتشه فيله[ads3]