تعرف على ” الوباء الأشد فتكاً من كورونا ” الذي سيتسبب في وفاة الملايين سنوياً

لم يغفل الطبيب وعالم الأحياء البريطاني، ألكسندر فلمنغ، أثناء تسلمه جائزة نوبل عن اكتشافه أول مضاد حيوي عرفه العالم، التحذير من استشراء قدرة البكتيريا على تطوير نفسها لتصبح مقاومة للمضاد الحيوي.

والآن وبعد مرور أكثر من 90 عاماً على الثورة التي أحدثها اكتشاف البنسلين في مجال الطب الحديث والرعاية الصحية، وصفت منظمة الصحة العالمية الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية بأنها “أكثر المخاطر الصحية إلحاحا في عصرنا الحديث”؛ إذ تهدد “بالارتداد نحو قرن إلى الوراء” عما بلغه العالم من تقدم طبي.

تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن استهلاك العالم من المضادات الحيوية شهد قفزة هائلة منذ بداية الألفية الثالثة؛ إذ رصدت المنظمة استخدام نحو 34.8 مليار جرعة من المضادات الحيوية كل عام، مع زيادة الاستهلاك العالمي بنسبة 65 في المائة بين عامي 2000 و2015.

وتعتبر المنظمة إساءة استعمال مضادات الميكروبات والإفراط في استعمالها المحركين الرئيسيين لظهور الميكروبات المقاومة للأدوية، والتي وصفتها المنظمة العالمية بأنها “وباء غير مرئي” قد يكون “أشد فتكاً على المدى الطويل من فيروس كورونا”؛ إذ يُتوقع أن تتسبب في وفاة نحو 10 ملايين شخص سنويا.

وتتمثل خطورة الإفراط في استخدام تلك العقاقير في أنها تسمح للبكتيريا والميكروبات بتطوير نفسها لتصبح مقاومة للمضادات الحيوية؛ إذ يموت نحو 700 ألف شخص في العالم، بينهم 300 ألف طفل حديث الولادة، كل عام، بسبب عدم فاعلية العقاقير المقاومة للالتهابات، وتشير التوقعات إلى أن الأرقام آخذة في الارتفاع.

وإذا كانت التقارير العالمية تشير إلى أن واحدا من كل خمسة مضادات حيوية تُوصف، في بريطانيا، وواحدا من بين كل ثلاثة مضادات تُوصف في الولايات المتحدة، دون داعٍ طبي؛ فإن الواقع في الدول العربية أكثر قتامة؛ إذ لا يتطلب الحصول على تلك العقاقير، في أغلب تلك البلدان، وصفة طبية.

وتشير نتائج استطلاع الرأي الذي أجريناه في العاصمة الأردنية إلى أن غالبية المواطنين يلجئون لشراء المضادات الحيوية من الصيدليات، لدى شعورهم بأعراض نزلات البرد، ودون حتى اللجوء للطبيب للحصول على تشخيص؛ إذ يكاد ينعدم الوعي بالنتائج الكارثية لإساءة استخدام تلك العقاقير لدى المواطن العربي.

وبحسب “هيئة الإذاعة البريطانية”، بدأت قصة المصرية رشا إسماعيل مع المضادات الحيوية قبل أكثر من 15 عاماً، حينما خضعت لولادة قيصرية في المملكة العربية السعودية؛ حيث “نسى الطبيب المشرف على الجراحة إزالة جزء من المشيمة”، ما عرّضها للإصابة بالتهابات، وصف لها الطبيب، على إثرها، عدة مضادات حيوية، على مدى شهرين كاملين.

لجأت رشا إلى طبيب آخر وخضعت لعملية جراحية لإزالة الجزء العالق من المشيمة، لكن آثار طول فترة استخدامها للمضادات الحيوية سببت لها تقرحات في المعدة والقولون.

وتقول إن خضوعها للعلاج بالمضادات الحيوية أحدث اضطرابا كبيرا في الميكروبيوم المعوى لديها؛ إذ تقتل المضادات الحيوية البكتيريا المعوية المفيدة، وتتابع: “نجحتُ في التعافي من قرحة المعدة لكنني لم أستطع التعافي من قرحة القولون حتى الآن”.

وتوضح رشا أن الخلل الذي أصاب جهازها المناعي بسبب ما تعرضت له من إفراط في تناول المضادات الحيوية وأثرها على ميكروبات المعدة، جعل من جسمها هدفا سهلا للعدوى الفيروسية، وكانت نتيجة ذلك أن أصيبت بمرض “الحزام الناري” بعد أشهر من خضوعها للجراحة القيصرية.

تستخدم مضادات الميكروبات، بما فيها المضادات الحيوية ومضادات الفيروسات ومضادات الفطريات ومضادات الطفيليات، لمنع وعلاج العدوى في البشر والحيوانات والنباتات.

وتحدث مقاومة مضادات الميكروبات عندما تُغيِّر البكتيريا والفيروسات والفطريات والطفيليات خصائصها بمرور الوقت، بما يضعف فعالية تلك العقاقير أو يبطلها تماما، الأمر الذي يزيد من خطر انتشار الأمراض ورفع نسب الوفيات بها، كما يزيد من فترة رقود المرضى في المستشفيات، وبالتالي يكبد الاقتصاد العالمي ملايين الدولارات، وينذر بالعودة إلى ما قبل عصر اكتشاف البنسلين، الذي أحدث ثورة هائلة في الطب الحديث والرعاية الصحية.

ويقول د. أحمد مصطفى، المختص في الطب الحرج بكلية الطب بجامعة الإسكندرية المصرية، إن نسبة مقاومة المضادات الحيوية في مصر تتراوح بين 70 و 90 في المئة، وإن 4 في المئة فقط من المضادات الحيوية التي تُوصف خارج المستشفيات في مصر، جرى وصفها بناء على نتائج فحوص الزراعة المختبرية.

ويضيف د.أحمد أنه كان شاهدا على وفيات عديدة جراء العدوى بالميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية MDR، خلال فترة عمله في وحدات العناية الفائقة بعدة مشافي مصرية، ولكن الأكثر خطورة هو أننا “خلال السنوات الأخيرة شهدنا تزايدا للعدوى بالبكتيريا المقاومة لجميع أنواع المضادات الحيوية PDR، وهي البكتيريا التي يطلق عليها أحيانا (البكتيريا السوبر)”.

في مايو/ أيار عام 2015، أطلقت منظمة الصحة العالمية خطة شاملة للتصدي لمقاومة مضادات الميكروبات، بما فيها مقاومة المضادات الحيوية، تستهدف زيادة الوعي بالظاهرة وتعزيز سبل البحث والترصد وتخفيض معدلات الإصابة بعدوى الالتهابات، وترشيد استخدام الأدوية المضادة للميكروبات، إلى جانب ضمان استدامة الاستثمار في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات، عبر تطوير عقاقير طبية جديدة أكثر نجاعة.

وبموجب تلك الخطة، دشنت المنظمة الأسبوع العالمي للتوعية بالمضادات الحيوية، في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، ضمن حملة تمتد لسبع سنوات. غير أن التحديات التي تهدد نجاح الحملة العالمية لا تقف عند حد التزام الأفراد والمهنيين الصحيين وواضعي السياسات في البلدان المتبنية لخطة المنظمة بالقواعد التي وضعتها الأخيرة في سبيل تأخير وقوع السيناريو الكارثي، الذي سيشهد عودة العالم لما قبل عصر اكتشاف البنسلين، وإنما تتجاوز ذلك إلى حث دوائر صنع الرعاية الصحية على الاستثمار في مجال البحث والتطوير فيما يخص المضادات الحيوية واللقاحات وأدوات التشخيص.

وعن ذلك يقول مدير التنسيق العالمي في برنامج مقاومة مضادات الميكروبات لمنظمة الصحة العالمية، هايليسوس جيتهون، إنه “يجب اغتنام الفرص الناشئة عن تفشي وباء كوفيد-19 لتسليط الضوء على احتياجات الاستثمارات المستدامة في البحث وتطوير مضادات حيوية جديدة وفعالة”.

ولكن المثير أن تفشي وباء كورونا تزامن مع قفزة هائلة في الإقبال على شراء المضادات الحيوية؛ لاسيما في العالم العربي، حيث يغيب الوعي الطبي ويسهل الحصول على تلك العقاقير دون رقابة تذكر في كثير من البلدان.

أما ما يفاقم من خطورة الوضع هو ما يشير إليه آخر تقرير أصدرته المنظمة، في أبريل/ نيسان الفائت، من أن العالم لم يستطع بعد تطوير علاجات ملحة مضادة للبكتيريا، على الرغم من الوعي المتزايد بالتهديد الداهم لمقاومة المضادات الحيوية.

وتكشف المنظمة، في تقريرها، عن أن مجموع المضادات الحيوية الثلاثة والأربعين التي تخضع حاليا للتطوير السريري لا تعالج بشكل كاف مشكلة مقاومة أخطر أنواع البكتيريا في العالم للأدوية.

بحسب تقرير المنظمة، تزداد حدة تأثير مقاومة مضادات الميكروبات في البيئات التي تعاني من نقص في الموارد وبين الفئات الضعيفة مثل المواليد الجدد والأطفال الصغار.

ويعد الالتهاب الرئوي الجرثومي والتهابات مجرى الدم من بين الأسباب الرئيسية لوفيات الأطفال دون سن الخامسة، كما تتسبب العدوى البكتيرية المقاومة للعديد من المضادات الحيوية الأولية في وفاة ما يقارب 30 في المئة من حديثي الولادة المصابين بالإنتان (أو تعفن الدم – sepsis). ورغم ذلك تلفت المنظمة إلى أن كبرى شركات الأدوية عازفة عن الاستثمار في مجال تطوير المضادات الحيوية؛ إذ خلص تقرير أممي حديث إلى أن من يقود البحوث والتطوير في مجال المضادات الحيوية هي الشركات الصغيرة أو متوسطة الحجم.

ويعزو الصيدلي المصري، معاذ لطفي، أسباب ذلك إلى أن “معركة تطوير مضادات حيوية جديدة تتطلب تسخير جهود آلاف الباحثين في مواجهة ملايين البكتيريا التي تتحور جينيا بشكل يومي، في ظل توافر الأسباب التي تعاونها على ذلك”، وهو ما يعني “انفاق ملايين الدولارات لتطوير عقاقير تُباع بأثمان زهيدة ستنجح البكتيريا في مقاومتها بمرور الوقت”.

ويختتم لطفي حديثه بالتشديد على ضرورة تضافر الجهود للحد من الإفراط في تناول تلك العقاقير وتشديد القيود على وصفها من قبل الأطباء أو صرفها من قبل الصيادلة، بالتوازي مع جهود البحث والتطوير فيما يتعلق باستحداث مضادات حيوية أكثر نجاعة.[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها