يورونيوز : هل تسببت الحرب في أوكرانيا بتراجع نفوذ ألمانيا في وسط أوروبا و شرقها ؟
كانت ألمانيا لسنين طويلة طرفا رئيسيا يرمي بثقله في “توجيه” سياسات بعض دول الاتحاد الأوروبي الواقعة في وسط أوروبا وشرقها، والتي كانت تنصت لبرلين لأخذ المشورة تارة و بناء تحالفات طورا آخر.
ألمانيا محاور موثوق به مع دول شرق أوروبا ووسطها
وفي كثير من الأحيان حين كان الاتحاد الأوروبي ينزع نحو “التأثير” أو “التحاور” مع دول مثل المجر وبولندا، كان المرور عبر خط برلين، ضرورة لا بد منها في كل ما يتعلق بالتفاهمات والمحادثات أو توجيه رؤى بعينها في مسائل السياسة الخارجية المرتبطة بالاتحاد الأوروبي.
عوامل قوّضت نفوذ برلين
لكن سلسلة من التطورات الأخيرة المرتبطة بالغزو الروسي لأوكرانيا، قوّضت سلطة برلين ونفوذها في وسط أوروبا وشرقها وبشكل حاسم. ولعل مغادرة أنغيلا ميركل لمنصب المستشارية أواخر العام الماضي، ألقى بظلاله في ضوء هذه المعادلة، فضلا عن تشكيل ائتلاف ثلاثي من حزب الخضر والليبراليين و الحزب الاشتراكي الديمقراطي بقيادة المستشار الألماني، أولاف شولتس، قد يجعل من اتخاذ القرارات المرتبطة بالسياسة الخارجية الألمانية، عصيبا في أحايين كثيرة.
الأخطاء السياسية
أهم شيء يثير التوقف بشانه في هذه المعادلة الداخلية، هو سلسلة من الأخطاء السياسية والرسائل غير المتسقة المتعلقة بسياسة روسيا والحرب في أوكرانيا.
كانت النتيجة ضعفًا ملحوظًا في نفوذ برلين واستعدادًا أكبر من قبل الدول الأخرى للسير صوب الاستقلالية في انتهاج طريقها الخاص بها وفي بعض الحالات أبدت دول بعينها مواقف فيها شيء من التحدي للتحالف الفرنسي الألماني علنًا الذي ظل لفترة طويلة في مركز قوة الاتحاد الأوروبي و تشكيل صنع القرار، وفقًا للعديد من المسؤولين والدبلوماسيين في الاتحاد الأوروبي.
وقال دبلوماسي من أوروبا الشرقية لم يرغب في الكشف عن هويته “لسنا بحاجة لحماية ألمانية، لقد أثبت التاريخ أنها في الجانب الخطأ من التاريخ” ولعل الدبلوماسي يشير من طرف خفي إلى التقاليد السياسية القديمة التي انتهجتها برلين، والمتمثلة في اعتماد سياسة تتسم بـ”التهدئة” حين يتعلق الأمر بالتعامل مع روسيا.
بولندا لاعب أساسي ينصت إليه الأوروبيون
في ظل الوضع القائم والمرتبط بأزمة أوكرانيا، برزت بولندا، كلاعب ينصت إليه الأوروبيون، بعد أن بذلت حكومة رئيس وزراء بولندا ماتيوش مورافيتسكيجهودا حثيثة لاستقبال اللاجئين من أوكرانيا وفي زعامة المعسكر الذي نادى بتشديد العقوبات ضد موسكو، وتزويد أوكرانيا بالأسلحة، وفي حديث ليورونيوز قال ماتيوش مورافيتسكي ” لقد تم إعطاء الأوكرانيين الكثير من الأسلحة، لقد كنا أسخياء للغاية من وجهة نظر عدد الأنواع المختلفة من الأسلحة التي قمنا بتسليمها إلى أوكرانيا، من الدبابات إلى الصواريخ المضادة للطائرات بأنواعها”.
أزمة مع المجر
من جانب آخر، وفي ظل تباين وجهات نظر الأوروبيين بشأن التوصل إلى اتفاق لحظر النفط الروسي، كان يتمسّك رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، قبيل انعقاد القمة الأوروبية الاستثنائيّة الاثنين، برفضه حظر إمدادات النفط الروسي الرخيص إلى بلاده، وذلك ضمن مجموعة من الإجراءات الشعبويّة التي تساهم في تعزيز بقائه في السلطة. وعلى الرغم من ذلك، كله، اتفق زعماء الاتحاد الأوروبي من حيث المبدأ على خفض واردات النفط من روسيا بنسبة 90 بالمئة بحلول نهاية هذا العام، فيما أنهى أزمة مع المجر بشأن أشد عقوبات الاتحاد حتى الآن على موسكو منذ غزو أوكرانيا قبل أكثر من ثلاثة أشهر.
المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل “محاورة” موثوق بها
في السابق، عندما كان فيكتور أوربان يضع بعض العقبات أمام مقترحات الاتحاد الأوروبي، غالبًا ما كان يُطلب من المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل، التحاور معه، و إيجاد تسويات من شانها أن تخفف من حدة اختلاف الرؤى بين بروكسل وبودابيست بشأن مسائل يتطلب اتخاذ قرار بشأنها “إجماعا” اوروبيا. لكن من غير المؤكد التكهن بخفايا ما كان يجري فعلا في الكواليس بين ميركل وأوربان لترتيب السياسات وفق ما يتواءم وسياسة الاتحاد الأوروبي الخارجية بشكل خاص. أما الأمر الذي لا جدال فيه، هو أن لميركل نفوذا قويا داخل دول التكتّل، و لعل هذه الميزة ساعدتها أيضا في بناء جسر تواصل ما بين المجر وبروكسل، حين يتعلق الأمر ببحث الأمور الخلافية وإيجاد الحلول الناجعة لعلاجها.
ومهما يكن من أمر، كانت العلاقة بين ميركل وأروبان، في أحايين أخرى، متوترة أيضا بسبب تسيير مسألة اللاجئين. ففي 2018، شب خلاف بين الاثنين بشأن المسؤوليات التي تقع على عاتق أوروبا تجاه اللاجئين الباحثين عن ملاذ آمن في أوروبا.
كما كان يدعو أوربان بخلاف ميركل إلى انتهاج سياسة أكثر تشددا بملف اللاجئين من خلال مطالبته بأن “أفضل وسيلة تظهر بها أوروبا إنسانيتها هو أن تلغي الحوافز التي تشجع اللاجئين على القدوم للقارة” حسب تصريحاته.
اتهامات تطال برلين
اتُهمت ألمانيا بمحاولة السعي للحصول على إعفاء من أي حظر سيفرضه الاتحاد الأوروبي على النفط الروسي، المنقول عبر خطوط الأنابيب. نفت برلين مرارًا وتكرارًا أي محاولة منها في الدفع صوب هذا الاتجاه، قبل أن يعلن المستشار الألماني أولاف شولتس أن ألمانيا متمسكة بهدفها لأن تصبح مستقلة عن واردات النفط الروسي بحلول نهاية العام، مضيفا أنه لم يتم اتخاذ قرار بشأن خيارات التعامل مع مصفاة شفيت النفطية.
“أمن إمدادات الطاقة في أوروبا”.. مسألة مفصلية
في غضون ذلك، لم تسفر الزيارة التي أجرتها رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في أيار/مايو الجاري، وهي وزيرة الدفاع الألمانية السابقة و المقربة من ميركل، عن اي اختراق في ثني فيكتور اوربان عن التراجع عن مواقفه بشأن “أمن إمدادات الطاقة في أوروبا” حينها، بسبب استمرار الخلاف بين بروكسل وبودابيست حول مبادىء سيادة القانون وتحريك آلية ربط الأموال الأوروبية بضرورة التزام المجر باستقلالية القضاء والحقوق الأساسية. لم يتم بلوغ أي تسوية تجعل من التوصل إلى حل وسط، ممكنا.
“أولاف شولتس يغرد خارج السرب”
في ظل مفاوضات مضنية استمرّت شهراً مع بوادبيست، كان رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال وإيمانويل ماكرون الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية لمجلس الاتّحاد الأوروبي يخوضان الاتصالات مع فيكتور أوربان، لدفعه للموافقة على حزمة العقوبات على موسكو. وبناء على ذلك، اتّفق قادة دول الاتحاد الأوروبي خلال القمّة على فرض حظر تدريجي على واردات النفط الذي تصدّره روسيا عبر السفن، ووافقوا في الوقت نفسه على منح إعفاء مؤقّت للنفط المنقول عبر خطوط الأنابيب، وذلك إرضاء للمجر التي هدّدت باستخدام الفيتو ضدّ هذه الحزمة السادسة من العقوبات الأوروبية على روسيا والتي اشترطت أساسا للموافقة على هذه العقوبات حصولها على ضمانات في مجال أمنها الطاقوي. والعقوبات الأوروبية تصدر بالإجماع وبالتالي فإنّ موافقة المجر كانت ضرورية لإصدار هذه الحزمة السادسة منها بحقّ روسيا.
لكن خليفة ميركل، أولاف شولتس، لم يقم بدور معتبر ضمن المساعي الرامية إلى التوصل إلى حل وسط مع المجر، أو حتى لفرض حزمة واسعة من العقوبات على روسيا.
شولتس مشكلة حقيقية في بناء التفاهمات؟
وقال دبلوماسي من الاتحاد الأوروبي: “يعتبر شولتس مشكلة حقيقية”. وهو بالأحرى ألماني جشع بدلاً من أن يكون لاعبا لدور صانع التسويات الذي كانت تقوم به ميركل حسب تعبير الدبلوماسي.
شولتس يعكس مستوى زعيم دولة أوروبية “متوسطة الحجم”
وقال الدبلوماسي إن شولتس يمكن في أحسن الأحوال وصفه بأنه “رجل له باع في عالم المال”، فهو عضو سابق في مجلس الشؤون الاقتصادية والمالية بالاتحاد الأوروبي والذي يضم وزراء المالية في دول الاتحاد، وهو المنصب الذي شغله شولتس في السابق. وأضاف الدبلوماسي: “لكن بصراحة، إنه يعكس مستوى زعيم دولة أوروبية متوسطة الحجم”.
مسؤول حكومي: ألمانيا تلعب دورا رائدا في التسويات
رد مسؤول ألماني لم يكشف عن اسمه، ضد مثل هذه الادعاءات، بحجة أن “حقيقة وجود انتقادات من العديد من البلدان تظهر فقط أن ألمانيا تلعب دورًا رائدًا” في التوسط في التسويات على مستوى الاتحاد الأوروبي في “هذه اللحظة الصعبة” حسب قوله.
جادل شولتس نفسه يوم الثلاثاء بالقول: “أكدت على الوحدة الكبيرة وتضامن أوروبا تجاه أوكرانيا”، وهو إنجاز سعى أيضًا إلى الاعتراف به من خلال سرد جوانب المساعدة المالية الألمانية لأوكرانيا واستقبال اللاجئين وكذلك المساعدة العسكرية الإضافية التي قدمتها بلاده إلى كييف. معلنا في الوقت ذاته، التوصل إلى اتفاق مع اليونان يقضى بإرسال أثينا آليات عسكرية من الحقبة السوفياتية إلى أوكرانيا مقابل عتاد أكثر حداثة من برلين. وكانت ألمانيا أبرمت اتفاقات مماثلة لإرسال أسلحة إلى أوكرانيا، مع تشيكيا، وتتفاوض بشأن اتفاق آخر مع بولندا.
انتقادات من الداخل لشولتس
على الجبهة الداخلية، تعرض شولتس لانتقادات شديدة في الأيام الأخيرة بسبب تعليقات غريبة حول نشطاء المناخ الذين أزعجوه، ما أجبر متحدثًا باسم الحكومة على رفض الاتهامات التي تدعي أن شولتس شبههم بـ “النازيين”.
تراجع النفوذ الألماني
كان خفوت النفوذ الألماني باديا بالفعل في السنوات الأخيرة أي منذ فترة وجود ميركل في السلطة التي استمرت 16 عامًا، ولكن ظهر لأول مرة بشكل صارخ في حزيران/يونيو الماضي عندما حاولت ألمانيا وفرنسا ومعهما النمسا إقناع بعض الدول المتشككة بجدوى الحوار مع روسيا وعقد قمة مع رئيسها بوتين، ولكن هذا المقترح واجه معارضة قوية من جانب عدة أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها دول البلطيق وبولندا.
بدا ماكرون وميركل عازمين على مواكبة الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي عقد قمة خاصة مع بوتين في جنيف العام الماضي. وقد أسفر ذلك الاجتماع عن القليل من الإنجازات الملموسة لكنه قدم تلميحًا نادرًا عن تحسن العلاقات مع موسكو.
المصداقية الألمانية والفرنسية تتلقى ضربة موجعة
حذرت دول أوروبا الشرقية من أن بوتين لم يتخذ بعد أي خطوات ملموسة ردًا على مبادرات بايدن، وحذرت من أن النهج اللين للغاية من قبل الاتحاد الأوروبي تجاه الزعيم الروسي الذي يصفه بعض قادة تلك الدول بـ”الاستبدادي” يمكن أن يقوض جهود بايدن لخلق توازن جيوسياسي جديد.
وفي السياق، تلقت المصداقية الألمانية والفرنسية ضربة موجعة بالفعل في ضوء المساعي “الفاشلة” لتنفيذ اتفاقيات مينسك للسلام، ويتعلق الأمر باتفاقات لوقف إطلاق النار يهدفان إلى إنهاء الحرب الانفصالية التي تدعمها روسيا في منطقة دونباس الشرقية بأوكرانيا.
لقد أكد غزو بوتين واسع النطاق لأوكرانيا لدول أوروبا الشرقية أن ألمانيا ارتكبت خطأ تاريخيًا فادحًا من خلال وضع المصالح الاقتصادية قبل احتواء وعزل بوتين الذي أطلق شرارة الحرب. وفي نهاية المطاف، حصل الغزو الروسي لأوكرانيا، بعد أشهر من التحذيرات من واشنطن بأن الحرب كانت وشيكة في حين كانت باريس وبرلين تشككان في الأمر بشكل صريح.[ads3]