بي بي سي : كيف نجحت ألمانيا في وضع حد لاعتمادها على الغاز الروسي ؟
عندما أغلق فلاديمير بوتين صنابير الغاز عن أوروبا، كانت ألمانيا تخشى أكثر من باقي دول القارة أن تواجه شتاء قاسيا مظلماً لا كهرباء فيه. سارع الوزراء لتأمين الإمدادات البديلة، مدركين تماماً أن الاعتماد الكبير على الغاز الروسي قد ترك هذه الدولة الصناعية كالريشة في مهب الريح.
لكن بعد بضعة أشهر، ومع تلألؤ الأضواء في أسواق عيد الميلاد، هناك شعور بالتفاؤل المبدئي. يبدو أن استراتيجية ألمانيا التي وُضعت على عجل بهدف الاستغناء عن الغاز الروسي تعمل بنجاح، على الأقل في الوقت الحالي.
ليست خزانات الغاز في البلاد ممتلئة؛ نتيجة حملة شراء محمومة ومكلفة في الأسواق العالمية فحسب، بل أيضا انتهى المهندسون لتوهم من بناء أول محطة استيراد الغاز الطبيعي المسال في البلاد، على ساحل بحر الشمال العاصف، خلال مدة قياسية.
والغاز الطبيعي المسال هو غاز طبيعي يتم تبريده بطريقة معينة ليصبح على شكل سائل لتقليل حجمه وتسهيل نقله، ثم يتم تحويله مرة أخرى إلى شكل غاز عند وصوله إلى وجهته.
وعلى الرغم من أن ألمانيا تشتهر بالبيروقراطية الشديدة، إذ عادة ما يستغرق هذا النوع من المشاريع سنوات طويلة، لكن السلطات تخلصت من الروتين هذه المرة لتسهيل إنجاز هذا المشروع في أقل من 200 يوم.
بيد أن الجزء الأكثر أهمية من المحطة، وهو وحدة تخزين ومعالجة عائمة تعيد تحويل الغاز المسال إلى شكله الطبيعي (FSRU)، لم تُبنى بعد. وستلجأ ألمانيا إلى استئجار وحدة تخزين ومعالجة، وهي في الأساس سفينة متخصصة يتم بداخلها تحويل الغاز الطبيعي المسال إلى حالته الغازية، مقابل 200 ألف يورو يوميا.
ولكن في غضون أسابيع، يمكن للناقلات من دول مثل الولايات المتحدة أو النرويج أو الإمارات تسليم حمولتها هنا إلى ميناء فيلهلمسهافن. إن شركة يونيبير، Uniper، المشغلة للمحطة، والتي باتت تسيطر عليه الحكومة الألمانية بشكل شبه كامل، تبدو متحفظة فيما يتعلق بالموردين، ولكنها تصر على أن العقود سارية.
ويتم التخطيط لإنشاء خمس محطات أخرى للغاز الطبيعي المسال، ومن المقرر الانتهاء من معظمها العام المقبل، إذ أن قطاع الصناعة في ألمانيا يعتمد عليه بصورة شبه كلية.
يقول إرنست بوشو، بينما نقف في مصنع الآجر الذي يمتلكه على بعد نصف ساعة بالسيارة من فيلهلمسهافن: “إذا لم نحصل على أي غاز، يتعين علينا إغلاق الفرن المخصص لشوي الآجر”.
يجب شوي الآجر الذي ينتجه مصنعه في فرن عملاق عند درجات حرارة تصل إلى 1200 درجة مئوية (2192 فهرنهايت). ويأمل بوشو أن ينتقل يوما ما إلى استخدام الهيدروجين الأخضر ( الهيدروجين المتولد عن الطاقة المتجددة أو الطاقة منخفضة الكربون، ويحتوي الهيدروجين الأخضر على انبعاثات كربونية أقل) لكنه يقول إن الأمر سيستغرق وقتا طويلا، أما في الوقت الحالي فمصنعه يعتمد كليا على إمدادات ثابتة من الغاز.
“ليس الخطأ خطأ السياسيين بشكل كامل، فالصناعة احتاجت لعقود الغاز الروسي”.
قبل عام واحد فقط، ضمنت تلك العقود الروسية ألمانيا 60 في المئة من احتياجاتها من الغاز، وقد جاء معظمه عبر خط أنابيب نوردستريم من روسيا. كانت الحكومة لا تزال تتوقع وإن كان ذلك في مواجهة معارضة سياسية وشعبية كبيرة افتتاح خط أنابيب نوردستريم 2 الذي كان من شأنه أن يضاعف كمية الغاز الروسي القادمة إلى أوروبا عبر ألمانيا.
لكن اليوم، ووفقا لوكالة شبكة الطاقة الفيدرالية، باتت ألمانيا تتدبر أمورها بدون الغاز روسي. ولكن لتجنب النقص خلال فصل الشتاء، يقول خبراؤها إن محطات الغاز الطبيعي المسال يجب أن تكون جاهزة للعمل في بداية العام المقبل وإنه ينبغي كذلك تقليل استهلاك الغاز بنسبة 20 في المئة.
ومجرد الوصول إلى هذه النقطة يمكن اعتباره إنجازا وطنيا ضخما، لكن بطبيعة الحال هناك ثمن لذلك.
ونظرا لثقلها الاقتصادي غالبا ما تحصل ألمانيا على ما تريد. إن شهيتها الجديدة للغاز الطبيعي المسال تتسبب في تكثيف وزيادة الطلب العالمي عليه.
وهذا الأمر من شأنه أن يضع دولا أخرى أفقر مثل بنغلاديش وباكستان، في موقف ضعيف.
يقول البروفيسور أندرياس غولدثاو من كلية فيلي برانت للسياسة العامة: “لديك مجموعة كاملة من البلدان ولا سيما الاقتصادات الناشئة التي تم إخراجها بصورة تلقائية من السوق ولم يعد بإمكانها الحصول على الغاز الطبيعي المسال الذي تحتاج إليه”.
ويمضي البروفيسور غولدثاو للقول: ” تلك الدول لديها قوة شرائية أقل من الأوروبيين، ولا سيما الألمان”.
ويحذر من أن ذلك يتركهم عرضة لانقطاع التيار الكهربائي وقد يزيد أيضا من اعتمادهم على الوقود الأحفوري الأسوأ على البيئة و”الأكثر قذارة” مثل الفحم.
وماذا عن طموحات ألمانيا لمستقبل أكثر استدامة يعتمد على الطاقة البديلة؟ في الواقع الغاز الطبيعي المسال هو في نهاية الأمر وقود أحفوري.
لكن كل من يشارك في مشروع فيلهلمسهافن يسارع إلى الإصرار على أن الغاز الطبيعي المسال هو وقود “انتقالي”، وحل مؤقت.
ووعدت شركة يونيبر Uniper ببناء بنية تحتية للتعامل مع الهيدروجين الأخضر بجانب محطة تخزين ومعالجة الغاز المسال التي يجري العمل عليها حاليا.
وقد أدى ذلك الوعد إلى إشاعة خطط طموحة في مجلس مدينة فيلهلمسهافن. يقول رئيس البلدية، كارستن فيست، إن محطة الغاز الطبيعي المسال لن تخلق العديد من الوظائف وفرص العمل التي تعد المدينة في أمس الحاجة إليها، لكن خطط إنشاء مركز للطاقة الخضراء المستدامة من شأنها أن تخلق الكثير من الوظائف.
“الكثير من التحول في مجال الطاقة الذي نحتاج إلى تحقيقه حتى يكون لكوكبنا مناخ صالح للسكن في غضون خمسين أو مئة عام، والكثير مما هو ضروري هنا في ألمانيا، سيحدث هنا في فيلهلمسهافن وعبرها”.
ربما تكون التكلفة الأكثر إثارة للصدمة هي تكلفة إنشاء تلك المحطات.
هذه المحطات الست للغاز الطبيعي المسال تكلف الحكومة أكثر من ستة مليارات يورو. وباعتراف الحكومة فإن هذا المبلغ يزيد عن ضعف ما خصصه الوزراء في البداية في الميزانية وقد يرتفع أكثر في العام المقبل.
لقد تعلم هذا البلد الصناعي الكبير بعد فوات الأوان قيمة الإمدادات الثابتة والآمنة للطاقة، ويبدو أنه يدفع ثمن ذلك الآن.[ads3]