الزند .. ” نجاح باهر ” لدراما النظام السوري
يصعب ألا يعجب المشاهد بمدى الإتقان في المسلسل السوري «الزند» (إخراج سامر برقاوي وتأليف عمر أبو سعدة). براعة التصوير، جماليات الديكور، المشهد المرسوم بدقة، حركة الكاميرا، مع موسيقا مؤثرة وجميلة.. والتمثيل الرائع، إن استثنيتَ منه تيم حسن، الذي سيبدو بطلاً نهائياً منذ إطلالته الأولى، ليستعيد بالضبط شخصيته في «الهيبة»، العمل إياه، المكرّس لتمجيد ثقافة الحشيش وتهريب السلاح والخروج على القانون.
تيم حسن، وهو هنا يلعب دور الشخصية التي تحمل اسم العمل «الزند»، يستعير كل إيماءات ولغة «الهيبة»، الفرق فقط في اللهجة، ولا يأتي اختيارها عبثاً، فهي لهجة أقلوية اختيرت لتكون لغة البطل، الذي سيأتي ليقلب الطاولة على جميع لاعبي نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين؛ عصمليي السلطنة المريضة، سفراء الدول الكبرى، والباشوات المحليين، وسواهم. لغة البطل، التي اختيرت من قبل، بالعناية نفسها، لتكون لغة «الضحية» المزعومة في أفلام العشرية الأخيرة التي حقّقها النظام السوري ومؤسساتُه الرديفة. في أعمال سينمائية راحت تتمحور حول ثيمة النبي يوسف، تصور النظامَ وبطلَه، على أنه صاحب الرؤيا والنبوءات، الذي سيتكاثر عليه الإخوة، شركاء العيش، لرميه في البئر.
«الزند»، الذي قُتل أبوه ظلماً أمام عينيه صغيراً، فيهرب، سيعود بعد أسفار حربية بعيدة، ليقود الفانتازيا التاريخية السورية المألوفة، كما عرفناها في مسلسل «البركان» على سبيل المثال (تذكروا: كلنا معك يا ورد)، أو «الجوارح»، حيث المعادل الدرامي لفكرة «البعث» وتوحيد القبائل التي ستأخذنا إلى المجد والسؤدد. سيعود الشاب عارفاً طريقه، وسيبدأ من عرض عضلات أسطوري عندما يروض خيلاً استعصت على الباشا وسائسيه أمام قصره، سيثير إعجاب الباشا (ابن قاتل أبيه)، حتى أنه يعرض عليه العمل سائساً لخيله، ومن دون أن تستفز عنجهيته وميله للاستعراض عنجهية الباشا الفائضة، هو المؤمن باستحالة تفوق جنس الفلاحين على جنس الباشوات، كما سيأتي في مشهد لاحق، يعرض فيه الباشا على ضيوفه نظريته، فيما يدحض قراراً بفتح مدارس لأبناء الفلاحين، كتاباً أثيراً لديه: «مقالة في عدم مساواة الأجناس البشرية» (عادي أن يعرف الباشا نظريات لومبروزو و آرثر دو غوبينو، ما دام الفلاح الزند يعرف نيتشه الألماني!).
مشكلة عندما يطمئن الممثل النجم إلى أن مشاهديه لا يملكون إلا أن يعجبوا به، مهما فعل. ويبدو أنه سيظل يتصرف على هذا النحو ما دام هناك من يسميه، حتى من زملائه، بـ «الممثل العملاق». أعطونا أي فرق في الأداء في عمله هنا وفي «الهيبة»، في حدود ما ينطبق هذا الكلام على الممثلة دانا مارديني، وهي في العادة ممثلة بارعة بحق، لكنها هنا تؤدي بدم بارد وبطيء، كأنها تريد أن تمطّ الوقت الخاص بها أمام الكاميرا. الصمت والبطء الهوليودي إن زادا عن الحد اللازم سيكون لهما مفعول معاكس. ولا ينطبق ذلك على الممثل فايز قزق (زعّاق الدراما السورية في العادة)، الذي أدى، في مشهد وحيد في المسلسل، واحداً من أحسن أدواره.
يمكن للمرء، المشاهد، أن يتغاضى (إن كان لديه الوقت والصبر) عن هنات العمل، سواء المتعلقة بالتمثيل، أو باستعارات إخراجية من أفلام عالمية، أو بملابس وياقات مكوية لأكثر الناس تعتيراً، أو حتى بخطأ ظهور إشارات معاصرة، على ما رأى البعض، لكن لا يمكن النظر إلى موضوعة العمل ببراءة. لا يأتي «العصملي» إلى دراما تلفزيونية من إنتاج النظام الممانع عفو الخاطر، نعرف جيداً تلك المرحلة من الصراع مع تركيا التي أنتجت «إخوة التراب» ومرحلة الخوازيق الدرامية، وفترة الرواق مع الأتراك التي أثمرت سلاسل تركية مدبلجة لا تنفد. وهنا، فإن الفريق الذي أنجز «الهيبة» (شركة إنتاج، ومخرجاً وممثلين وسواهم) دفاعاً عن ثقافة مصنع الكبتاغون الكبير، لا يمكن أن يكون ساهياً عمّا يراد من وراء المسلسل.
لا بد من الإشارة أيضاً إلى تصوير نمطي واختصارات، ليست جديدة تماماً أو طارئة على سلوك النظام الممانع، فلا يخرج عن ذلك تصوير البدو في المسلسل على أن ميزتهم الغدر، والعدوان، والسلب، عندما يُستخدمون في المسلسل من قبل الباشا لتأديب القرى العاصية مقابل حفنة من الذهب. ولكن لماذا يحسب حساب إنصاف القبائل البدوية السورية في التاريخ إن كان سهلاً ارتكاب مجازر بحقهم في الواقع، فيما تصلنا بشكل شبه يومي أخبار المجازر المرتكبة بحق العشرات من أبناء البادية من قبل الميليشيات الشيعية، وغالباً ما يسارع إعلام النظام بإلصاقها بداعش! لا ننسى أن بإمكان البدو أن يكونوا رمزية مطاطة جداً، تبدأ من بعض سكان مضارب البادية، إن أراد النظام أن يتواضع ويتصالح مع شركاء العيش، وقد تشمل، في عزّ الحرب، «أشباه الرجال»، أو «العربان»، الوصف الذي استُخدم بلا هوادة في العشرية السورية السوداء.
بالقدر ذاته، للكاميرا مساهمة بارزة بالتنميط في مشهدِ شَرْحِ الباشا لـ «مقالة في عدم المساواة»؛ الرجل يتحدث عن عدم أهلية أبناء الفلاحين للتعليم، ويعرض كتاباً مصوراً فيه عدد من أشكال الجماجم، أو الرؤوس، يقول إنها تثبت أن تطور الدماغ ليس واحداً عند جميع البشر، هنا تذهب الكاميرا إلى وجه الحارس الأسود الوحيد في الحفل، مع أن موضوع الحديث عن الفلاحين، لا عن السود. هل هذه استفاضة في الشرح والتوضيح؟ ما الذي تضيفه الكاميرا للسياق؟ علماً أن الكاميرا اهتمت بمرور الحارس من قبل. ولكن يبدو أن فريق الإنتاج أبى إلا أن يقول لنا إنه بذل جهده في العثور على الديكور اللازم.
حاولت هنا قراءة خمس حلقات من المسلسل، سأكون، والمشاهدين، في غاية السعادة إن كذّبتنا الخمس وعشرون حلقة المقبلة.
راشد عيسى – القدس العربي[ads3]