ألمانيا: الطاقة الخضراء تخنق الاقتصاد و تدفع الشركات إلى الهروب

 

حذّر الساسة والخبراء من أن الطاقة الخضراء في ألمانيا هي أحد الأسباب الرئيسة في تراجع آفاق نمو الاقتصاد الوطني؛ إذ تقود الطبيعة المتقطعة لتلك المصادر المتجددة إلى حصول نقص في الكهرباء، وهو ما يفاقم مشكلات قطاع التصنيع، ويؤدي لهروب الشركات خارج البلاد.

ويرى بعضهم أن قرار الحكومة الألمانية غلق آخر محطات الطاقة النووية المتبقية في البلاد، والاستعاضة عنها بمصادر الطاقة المتجددة، كان “خطأً تاريخيًا”؛ إذ إنه عزز ارتفاع أسعار الكهرباء لمستويات لم تقدر الشركات على مواكبتها؛ ما أضرّ بالقدرة التنافسية للأخيرة، وفق تقارير رصدتها منصة الطاقة المتخصصة.

وفي ضوء تلك الخلفية الباعثة على التشاؤم، يقف الاقتصاد الألماني على شفا الركود بفعل البيروقراطية التي تغلّف سياسات الطاقة الخضراء في البلد الواقع وسط أوروبا، وفق تحذيرات أطلقها المعارضون السياسيون.

من المتوقع أن يُظهر أكبر اقتصاد في أوروبا، وأحد أفضل الاقتصادات العالمية، أداءً متواضعًا مقارنة بأيّ دولة رائدة أخرى في العالم؛ استنادًا على التقديرات الصادرة عن صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وفق تقرير نشرته صحيفة “ديلي ميل” البريطانية.

وزعم رئيس الحزب الديمقراطي المسيحي المعارض فريدريش ميرز أن تباطؤ الاقتصاد الوطني هو نتيجة مباشرة لسياسات الطاقة الخضراء في ألمانيا، المغلفة بالبيروقراطية، والتي ينتهجها حزب الخُضر في الائتلاف مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي برئاسة المستشار الألماني أولاف شولتس.

وقال ميرز: “من السيّئ أن 2023 سيكون عام الركود،” في تصريحات أدلى بها لصحيفة “بيلد” الألمانية.

وأضاف: “إذا لم يتوقف هذا الكم غير الطبيعي من البيروقراطية قريبًا، وإذا لم تتراجع أسعار الطاقة بسرعة، لن يكون 2024 عامًا جيدًا”.

وتعهّد الزعيم الشعبوي “بخفض أسعار الضرائب، وتخفيف أعباء الرسوم المفروضة على الطاقة، وإعادة توصيل محطات الطاقة النووية التي أوقف تشغيلها، بالشبكة، ووضع حدّ للبيروقراطية”.

وتابع قائلًا: “لا ينبغي لأيّ قانون جديد أن يقود إلى مزيد من البيروقراطية، وهذا يعني -على سبيل المثال- أن نوقف قانون التدفئة الذي لا يُعدّ -في شكله الحالي- معيبًا من الناحية التقنية فحسب، بل إنه يكرّس للكثير من البيروقراطية -أيضًا-“.

وجاء هذا التعهد قبل مدة وجيزة من الخلاف الصريح الذي أبداه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع الموقف الذي تتبنّاه برلين -الآن- بشأن الطاقة النووية، زاعمًا أن إهمال الدور الذي تؤديه تلك الطاقة في الاتحاد الأوروبي سيكون “خطأً تاريخيًا”.

ويُظهر رئيس الحزب الديمقراطي المسيحي المعارض فريدريش ميرز تقدمًا في استطلاعات الرأي بعدما تبنّى حزبه سياسات مناهضة للمهاجرين.

تراجعت شعبية الحكومة الألمانية في الشهور الأخيرة، ويبدي قرابة 3 أرباع الألمان (73%) سخطًا إزاء أداء حكومة الائتلاف الحالية، بحسب استطلاع رأي نُشرت نتائجه في عطلة نهاية الأسبوع، وطالعته منصة الطاقة المتخصصة.

وجاء هذا التراجع في شعبية الحكومة في حين كشفت أرقام حديثة أن ألمانيا ما تزال “رجل أوروبا المريض”، مع انكماش اقتصادها في الربع الثاني من العام الجاري (2023)، بينما تصارع البلاد تباطؤًا في قطاع التصنيع، وتضخمًا صاروخيًا.

وتتدهور آفاق النمو في البلد الذي طالما وُصف بأنه “مستودع الصناعة في أوروبا”، مع جمود النمو الاقتصادي بدءًا من أبريل/نيسان إلى يونيو/حزيران (2023)، مقارنة بالربع السابق، بحسب البيانات الصادرة عن وكالة الإحصاءات الفيدرالية “ديستاتيس”.

وتُسدد تلك الأرقام طعنة نافذة في “خاصرة” الحكومة الألمانية التي سبق أن ضاعفت توقعاتها للنمو في 2023، بعدما نجحت برلين -وأوروبا كلها- في تفادي أزمة الطاقة الشتاء الماضي.

تجد الشركات الألمانية نفسها مضطرة للتعامل مع أزمة الطاقة التي أشعلتها روسيا عبر خفض الأخيرة إمدادات الغاز الطبيعي بعد غزوها أوكرانيا في 24 فبراير/شباط (2022).

ورغم تراجع أسعار الطاقة منذ أن لامست ذروتها في العام الماضي (2022)، بعد أن سارعت برلين إلى إيجاد مورّدين جدد، فإنها ما تزال أعلى من مستوياتها المسجلة قبل الحرب الأوكرانية.

في غضون ذلك قالت الخبيرة الاقتصادية فيرونيكا غريم، لدى سؤالها عمّا إذا كانت ألمانيا هي “رجل أوروبا المريض”: ” في تقديري أنك يجب أن تأخذ تلك العلامات على محمل الجدّ”.

وأوضحت غريم: “الاقتصاد يمرّ بأزمتين عميقتين: أولاهما الوباء وما أحدثه من مشكلات في سلاسل الإمدادات، وثانيهما التباطؤ في الإنتاج”.

وأضافت: “ثم جاءت الحرب الأوكرانية التي أثّرت في إمدادات الطاقة وأسعارها”.

ساعدَ النمو الثابت المُسجل في الربع الثاني من عام 2023 على انتشال ألمانيا من الركود التقني الذي وقعت فيه بداية العام ذاته، بعدما انكمش اقتصادها لربعين متتاليين.

وجاء هذا النمو مدعومًا بتحسّن مستويات الاستهلاك وتسارع وتيرة الاستثمارات.

ومع ذلك، هبطت الصادرات -مساهم رئيس في الناتج المحلي الإجمالي الألماني- عن الربع السابق، بحسب ما قاله رئيس وكالة “ديستاتيس” الفيدرالية الألمانية للإحصاءات روث براند.

غير أن تلك الأرقام الإيجابية لم تقدّم سوى القليل من الراحة لصنّاع السياسات الذين يصارعون معضلات اقتصادية متداخلة.

وتتدرج تلك المشكلات من التضخم المرتفع منذ اندلاع الحرب الأوكرانية إلى تباطؤ الصادرات، والاضطرابات التي تواجهها أسواق رئيسة مثل الصين، إلى جانب الضعف في قطاع التصنيع، وتزايد آثار أسعار الفائدة.

وتوقّع صندوق النقد الدولي أن تكون ألمانيا الاقتصاد الكبير الوحيد الذي ينكمش هذا العام (2023).

يُشار إلى أن معدل التضخم السنوي في ألمانيا قد تباطأ لما نسبته 6.2% في يوليو/تموز (2023)، على خلفية هبوط أسعار الطاقة، لكنه ما يزال فوق الرقم المستهدف من قبل البنك المركزي الأوروبي البالغ 2%.

تُعَدّ الحكومة الحالية أول ائتلاف حاكم يتألف من 3 أحزاب في تاريخ ما بعد الحرب في ألمانيا؛ إذ يتكون من الحزب الديمقراطي الاشتراكي برئاسة شولتس وحزب الخضر -المسؤول عن وزارة الاقتصاد- وحزب “إف دي بي” الليبرالي الذي يقود وزارة المالية.

لكن الائتلاف، الذي وصل إلى سدة الحكم في ألمانيا في أواخر عام 2021، يشهد انقسامًا واضحًا بشأن قضايا عدّة، من بينها السياسة الاقتصادية.

ولعل من تلك القضايا التي شهدت انقسامات خطة وزير الاقتصاد والمناخ الألماني روبرت هيبك لتحديد سقف أسعار الكهرباء التي تستعملها الصناعات كثيفة الكهرباء، حتى عام 2030، لفصلها عن الزيادة الحادة في التكلفة.

ويستهدف هذا الإجراء الحفاظ على القدرة التنافسية للصناعة الكيميائية، في حين تدعم البلاد سعتها لتوليد الكهرباء المتجددة من مصادر رخيصة التكلفة، مثل طاقتي الشمس والرياح.

لكن تلك الخطوة أثارت حفيظة المعارضة من الشركاء في الائتلاف الحكومي؛ إذ قال وزير المالية كريستيان ليندنر من حزب “إف دي بي”: “التدخل المباشر في السوق عبر توزيع الدعم غير وارد نهائيًا”.

وبالمثل، يُبدي المستشار الألماني معارضته للخطة، رغم أن بعض نواب البرلمان الألماني من حزبه قد أعربوا عن ترحيبهم بها.

من جهته، يرغب ليندنر في إطلاق تخفيضات ضريبية للشركات، غير أن حزمة التمويلات البالغة قيمتها 6 مليارات يورو، والتي كان من المقرر طرحها الأسبوع الماضي، قد حُظرت من قبل الوزير الذي ينتمي لحزب الخضر.

هناك مجموعة من المشكلات الاقتصادية التي لاقت إجماعًا من قِبل جميع الأطياف السياسية في ألمانيا، ممثلةً في عدم اليقين بشأن تكاليف الطاقة على المدى المتوسط، واللوائح التنظيمية المرهقة، ونقص العمالة الماهرة، وأخيرًا: التحول البطيء إلى الاقتصاد الرقمي.

ومما فاقم الاقتصاد الألماني المنكمش -أساسًا- تحذير قادة الشركات في يونيو/حزيران (2023) من أن القرار الذي اتخذته الحكومة بغلق آخر محطات الطاقة النووية المتبقية والاستعاضة عنها بالطاقة المتجددة سيكون له تداعيات كارثية على صناعات مهمة؛ ما سيقود بدوره إلى هروب تلك الصناعات الحيوية خارج البلاد وسط نقص الكهرباء.

وأعرب رئيس مرفق الكهرباء الألماني “آر دبليو إي” ماركوس كريبر عن مخاوفه من أن تواجه ألمانيا نقصًا في الكهرباء، ما سيقود إلى زيادة في ارتفاع أسعار تلك السلعة الإستراتيجية.

وحذّر كريبر من أن هذا سيقوّض “القدرة التنافسية” لألمانيا، بوصفها مركزًا صناعيًا عملاقًا؛ ما يعني هروب الشركات إلى الخارج، واصطحابها أعدادًا كبيرة من الوظائف معها.

من جهتهم، ألقى رؤساء شركات الطاقة الألمانية باللائمة في تراجع آفاق النمو الاقتصادي بالبلاد على “كارثة” الطاقة الخضراء في ألمانيا، التي قادت إلى غلق آخر محطات الطاقة النووية المتبقية في البلاد، والتركيز بدلًا من ذلك على إمدادات الكهرباء المولدة من المصادر المتجددة مثل الشمس والرياح.

لكن الطبيعة المتقطعة لمصادر الطاقة الخضراء، والتي تتسبب في توقّف توليد الكهرباء عند تكاثر السحب في السماء أو عند غياب السطوع الشمسي، تعني أن منظومة الكهرباء في ألمانيا تظلّ عرضة لنقص الكهرباء، ومن ثم الاضطراب في الأسعار.

وحذّر رئيس مرفق الكهرباء الألماني “آر دبليو إي” RWE، ماركوس كريبر، من أن هذا قد يكون له آثار كارثية في الصناعات الألمانية التي تحاول -دون جدوى- منح دفعة للاقتصاد الوطني المتعثر.

وفي هذا الصدد، أوضح كريبر: “بوصفها مركزًا صناعيًا، تواجه ألمانيا مُعضلة خطيرة، ممثلة بنقص الكهرباء الكافية التي نحتاجها”، في تصريحات أدلى بها لموقع “فوكس” Focus.

وتابع: “تقود تلك الفجوة إلى أسعار مرتفعة، وهو ما يبرر المخاوف إزاء القدرة التنافسية”.

لمكافحة مخاطر التعرض لنقص الكهرباء، أوصى كريبر بضرورة ضخ استثمارات ضخمة بالطاقة الخضراء في ألمانيا، لكن -حتى مع وجود تلك الاستثمارات- يتعين على منتجي الكهرباء الألمان إعادة ضبط منظومة الكهرباء بأكملها في البلاد بوتيرة قياسية، حسب كريبر.

وواصل: “الإرادة والمال موجودان، ولضخ الاستثمارات في الطاقات الخضراء في ألمانيا، نحتاج إلى إطار موثوق على المدى البعيد، يوفّر حوافز بدلًا من وضع العراقيل في الطريق”.

في السياق ذاته، يقول بعض الخبراء، إنه سيتعين على ألمانيا العودة في النهاية إلى الطاقة النووية إذا كانت ترغب في التخلص تدريجيًا من الوقود الأحفوري، وتحقيق أهداف الحياد الكربوني في جميع القطاعات بحلول عام 2045، إذ إن طاقتي الشمس والرياح لن تغطّيا الطلب كاملًا.

في المقابل، سعت الحكومة الألمانية إلى التقليل من شأن تلك المخاوف، قائلة، إنه بفضل شبكة الكهرباء المتكاملة في أوروبا، تستطيع ألمانيا استيراد الكهرباء عند الحاجة، مع بقائها بلدًا مصدرًا بصورة كاملة. (attaqa)

[ads3]

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها