الشرق الأوسط : النازحون السوريون في لبنان يتسابقون على هجرة ثانية
إذا كانت نقمة اللجوء تفاقم يوما بعد يوم مأساة مئات آلاف السوريين الذين فرّوا إلى لبنان هربا من الموت، فقد تحوّلت لدى البعض الآخر، رغم قلّتهم، إلى نعمة، إذ شرّعت الأبواب أمامهم على مستقبل أفضل، سواء بفتح أبواب السفارات الأوروبية لهم ومنحهم تأشيرات الهجرة الشرعية، أو بركوب أمواج البحر والمجازفة بأسرهم وأطفالهم متطلعين إلى غدٍ أكثر أملا يعوّض عليهم ما خسروه في بلادهم.
وإذا كان من المبكّر الحكم على نوعية الحياة التي سيعيشها هؤلاء في أرض اللجوء الجديدة، فإن الكثير منهم يعتقدون أنهم يكفيهم بلوغ بلاد تُحترم فيها كرامة الإنسان. وهو ما يقوله عبيدة عبد الساتر، وهو ربّ عائلة فرّت من مدينة القصير إلى منطقة عكار في شمال لبنان، مشيرا إلى أن نجله الأكبر حسام ركب مغامرة الأمواج، من مرفأ طرابلس (شمال لبنان) إلى تركيا، ومن هناك إلى اليونان ثم ألمانيا وصولا إلى السويد.
لا ينتاب الأب أي قلق على ابنه «الذي ولد من جديد»، كما يقول عبيدة، ويضيف: «فور وصوله مع عشرات العائلات تسلمتهم السلطات السويدية وأمنت لهم المساكن اللائقة، وهو الآن يخضع لدورات لتعلّم اللغة السويدية، التي تؤهله لمتابعة دراسته في هندسة الكهرباء على نفقة البلد المضيف». ويكشف عبيدة أن نجله حسام «يخطط الآن لسحب أشقائه الثلاثة (شابين وفتاة واحدة) ليلتحقوا به، ويعيشوا حياة كريمة يطمح لها كلّ إنسان».
تتعدد الروايات حول ما يسعى له السوريون في لبنان، خصوصا الشباب منهم الذين يلهثون وراء السماسرة ومافيات التهريب إلى الخارج. لكن هذا المسعى لا يتوقف عند السوريين وحدهم، فآلاف الشباب اللبنانيين باتوا يكابدون للحصول على بطاقات سورية قد تكون جواز عبور لهم إلى الخارج. غير أن انقسام السوريين بين الساعين لإنجاز معاملات الهجرة، وبين من نجحوا في تأسيس مصالح تجارية في لبنان، أوجد مشكلة غير متوقعة. فاليد العاملة السورية التي كانت متوافرة بكثرة في لبنان في السنوات الثلاث الماضية باتت محدودة جدا في هذه الأيام.
هذه المعاناة هي أكثر ما يعيشه المزارعون في شمال وجنوب لبنان وفي البقاع، خصوصا على أبواب موسم قطاف الزيتون. وأطلق هذا الواقع صرخة أرباب العمل في لبنان، من مزارعين وأصحاب مؤسسات تجارية، والذين يعجزون اليوم عن إيجاد عمّال لمحاصيلهم ومؤسساتهم، وإذا توفر ذلك فبأجور عالية باتت تضاهي أجر العامل اللبناني غير المتوافر أصلا.
مدير المؤسسة اللبنانية للديمقراطية وحقوق الإنسان المحامي نبيل الحلبي عزا طفرة الهجرة غير الشرعية للسوريين المقيمين في لبنان إلى «ضيق سبل العيش الكريم لهم في لبنان، بعد تخفيض المنظمة العالمية للأغذية مساعداتها للاجئين، لا سيما تخفيف المساعدات الطبية»، معتبرا أن «الكثيرين من هؤلاء اللاجئين يرون أن لبنان تحوّل إلى معتقل كبير بعدما وضعت الحكومة اللبنانية شروطا قاسية عليهم، واعتقلت المئات منهم على الحواجز الأمنية والعسكرية لعدم حيازتهم أوراقا ثبوتية، وهذا ما يدفعهم إلى المخاطرة والهجرة غير الشرعية عبر موانئ الموت».
ولفت الحلبي إلى أن «الهجرة غير الشرعية ليست حكرا على السوريين، بل باتت ملاذا لآلاف الشباب اللبنانيين من أبناء طرابلس والشمال، إما بسبب الفقر، وإما لأنهم باتوا مطلوبين للأجهزة الأمنية بموجب وثائق اتصال وقرارات توقيف اعتباطية». وعبر الحلبي عن أسفه لأن الحكومة اللبنانية «تريد أن تنتقم من المجتمع الدولي على تخفيف مساعداته، بالنازحين، وهذا يظهر بالممارسات العنصرية لبعض الأجهزة الأمنية، وهذا ما يدفعهم إلى الهجرة». وأشار الحلبي إلى أن «مشكلة اللاجئين باتت أزمة أممية، والأمم المتحدة وصفتها بأنها أكبر أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية».
وفي المقابل، بدأ آخرون بالسعي إلى إنشاء مؤسسات منتجة لهم في لبنان، لتأمين حياة كريمة. فقد اختار محمد عبد الساتر، شقيق عبيدة، البقاء في لبنان، ليس بوصفه مجرّد لاجئ أو عامل أجرة، فالرجل يمتلك من الجرأة ما شجعه على نقل تجربته الناجحة سوريا إلى لبنان، حيث أسس مصنعا متواضعا للألبان والأجبان. لا يطمح محمد في تهجير أبنائه الثلاثة مرّة جديدة (من لبنان إلى أوروبا). يقول الرجل الأربعيني: «يكفي ما حلّ بنا أن تركنا بلدنا ومنازلنا وأرزاقنا، هل نهاجر مرّة جديدة؟»، ويضيف: «سأبقى قريبا من بلدي، وأملنا قريب في أن يزول كابوس القتل والدمار ونعود إلى بلدنا ونبني بيوتنا من جديد». ويستطرد بلهجته العامية: «اللي بيترك دياره بيقلّ مقداره».
وفي بلدة عكارية أخرى، يقيم النازح عبد العزيز العتر مع المئات من أبناء بلدته يبرود (في القلمون السوري). أحلامه تختلف عن الآخرين، فهو لا يرى الحياة مثالية في لبنان، لكنه راضٍ بعمله الحرّ، وما يجنيه من قوت لعائلته من دون التسكّع على الأبواب وانتظار إعانات الهيئات الإنسانية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
يقول عبد السلام، الذي يملك فرنا لـ«المناقيش»، إنه لا يمانع في السفر إلى أي دولة أوروبية، إذا كان ذلك ممكنا بطريقة شرعية، لكن أن يجازف بعائلته وأطفاله إلى المجهول فهذا الأمر لن يحصل، معتبرا أن المفاضلة بين القبول بعيش قاسٍ في لبنان أو المجازفة ومحاولة الفرار إلى دول أخرى «مقاربة غير موفقة، وأنا لن أدفع بأولادي للموت في البحار».[ads3]